لا يفكر العراقيون كثيرًا في الدولة الحديثة، ذلك أن فئات اجتماعية كبيرة لديها ميل غريزي لكره المؤسسات بشهادة حنا بطاطو. لا تحظى الدولة العراقية بالتحشيد الجماهيري مثلما تحظى فيه الرموز المذهبية والقبلية، فمن هنا يأتي الولاء المذهبي والقبلي في سلّم الأولويات للجماهير المؤمنة. نتماهى مع شيخ العشيرة والرمز المذهبي، لأنهما مرآة عاكسة لسياقنا الثقافي المضطرب، الذي يعلي من شأن السلطة، وينظر باحتقار شديد لحياة المؤسسات، بل لا يراها ملك له، فهي مهددة بالسلب والنهب عند حدوث أي اضطراب سياسي. فمن هنا تأتي الأولوية لسيادة الشعبوية وهيمنة الغرائز ويدفن العقل في مقبرة النسيان.
في المجتمعات التقليدية يبحث التابع عن أقصى درجات الولاء، وهذه الحالة يمكن اعتبارها أحدى المعضلات الرئيسية التي تقف بوجه الدولة الحديثة
تمتلك بعض الفئات الاجتماعية في العراق غريزة متطورة للغاية يمكنها أن تشم رائحة المؤامرة وتتحسس الخطر الوشيك في وقت قياسي. من قبيل شيوع رأي عام يتعاطف مع مثليي الجنس، وظهور كرنفالات ذات طابع مدني، وازدياد رقعة المطالبين بالحريات، ونحو ذلك. هذه المواضيع يمكنها أن تشغل الرأي العام المحافظ أيامًا وليالي حتى لو كانت فيسبوكية الطابع، وتلهب الخيال الشعبي في حياكة وتطريز أحداث أسطورية عديدة، حتى يصل المرء إلى حقيقة مفادها: إن تداعي البنى التحتية، وانهيار مؤسسات الدولة، وفشل القطاعات الخدمية والإنتاجية، وفساد السلطة الحاكمة، والتلاعب بمقدرات البلد. بل حتى العبودية التي يمضغها يوميًا سكنة الأحياء الفقيرة كما لو أنها علكة طرية وبنكهة مٌحَبّبَة تألفها النفس، كل هذا سببه المواضيع أعلاه. هذه المواضيع ذات الأثر الضئيل يمكنها أن تلهب حماس الرأي العام المحافظ لإشباع معاركه الذهنية، لكنّه يتقبّل انهيار مؤسسات الدولة وفساد النخب السياسية الحاكمة بكل أريحية.
اقرأ/ي أيضًا: أوهام وحقائق
في المجتمعات التقليدية يبحث التابع عن أقصى درجات الولاء. وهذه الحالة يمكن اعتبارها أحدى المعضلات الرئيسية التي تقف بوجه الدولة الحديثة. فالتابع عندنا هو نسخة مشوهة للناخب الحقيقي، وحينما يشارك في العملية السياسية، لا لتحسين حياته الاقتصادية والاجتماعية، بل يسعى مكافحًا لتضخيم السلطة على حساب الدولة. كل الشواهد العملية تؤكد هذه الحقيقية، فلا مجال للجدل المنطقي المفرغ من معناه. وينبغي أن لا نحمل الجدالات الواسعة التي تسعى لتكذيب هذه الحقيقة على محمل الجد، فثمّة مساحات واسعة للتبرير والاستثناء، لكن بالتأكيد ليس محلها الحوارات الموضوعية!
إن الدولة ومؤسساتها تشكّل البديل الموازي لسلطة الأهواء العنيفة، وبالطبع لا تنسجم سلطة الدولة وسيادة القانون مع سلطة الحس الشعبوي. فمن هنا لا نجد اهتمامًا كافيًا من الحركات الشعبوية للمطالبة بإرجاع هيبة الدولة. ومن يبحث في أدبيات هذه الجماعات سيجد كل شيء مقدس إلا المطالبة بالحقوق! إن الحقوق تغدو مدنسة وتافهة مقارنة بخمرة العبودية التي أمدنت عليها الفئات الفقيرة.
في المجتمعات الحديثة يبحث الناخب عن مصالحه المادية. ويسعى حثيثًا للمزيد من المطالبة بتحسين أموره المعيشية، والضغط على ممثليه من خلال المطالب المستمرة بمزيد من العدالة والحريات. فالناخب هنا يمارس عملية واضحة وجلية خالية من التوتر والتداخل بين الولاء الديني والحياة الدنيوية. الحياة الدنيوية تعني الولاء للدولة التي تمثل حدود الوطن الجغرافية. والحياة الدينية تعني الولاء لله والرموز الدينية. ولا تضارب بين الاثنين طالما يعطى للدين وممارساته حرية واسعة في الفضاء العام. وبالطبع يمكن لأي فرد أو كيان سياسي متمسك بالدين أن يمارس نشاطه السياسي، ويشارك ببناء مؤسسات الدولة، ويسعى لسعادة المواطنين، فالدين يحث على العمل والسعي الدؤوب لراحة الناس، شريطة أن لا يستبدل هذا الكيان السياسي الولاء الديني مفضلًا إياه على بناء الدولة، فلا تضارب بين الاثنين لو عمل المعنيون بإخلاص لخدمة المواطن.
لكن يبدو أن هذا الكلام مفرط في المثالية في المجتمع العراقي. فكما قلنا، لا زالت سلطة الجهل هي المنتصرة، وتشكل القوة المهيمنة. وهذه الأخيرة حددت نوع السلطة الملائمة: سلطة الغرائز والانفعالات. ببساطة شديدة: إن سيادة الحس الشعبوي تعني إعلان الحكم بالإعدام على العقل، وإعطاء الفسحة الكافية لسلطة الأهواء العنيفة بتحطيم المجتمع، وتقويض سلطة المعرفة، لتحل محلها سلطة الجهل، التي من أحد مهامها المقدسة هي اختطاف الدولة وتقويضها تمامًا.
اقرأ/ي أيضًا: