ها نحن نفتقد افكارنا دائمًا. لذلك ترانا نسعى إلى التعلق بآراء ثابتة متوقفة.. ذلك أن تعاسة الإنسان لا تأتي إلا من الرأي. جيل دولوز، ما هي الفلسفة.
كثيرًا ما نتحدث عن الأحكام المسبقة بوصفها ورمة خبيثة ينبغي استئصالها. لكنّها ليست بهذا السوء، فهي مهمة شريطة أن لا تتحول إلى حقيقة مطلقة، حسب تعبير غادامير. لا نولد بأذهان فارغة كالصفحة البيضاء بكل تأكيد، بل تفعل الذاكرة فعلها، ومن ثم يسعى الإنسان الحر لتلمّس طريقه الخاص في هذه الدروب الوعرة والشائكة. فالأحكام المسبقة لا تكون مضرة إلّا من حيث كونها قواعد ثابتة، فتغدو عادات متأصلة بمرور الوقت، ونمنحها صفة التأبيد والجوهرية والأصل الثابت؛ أنّها آلهة متعالية عن الوقائع التجريبية، فتغدو خزّان من الآراء التي تشتغل بالضد من المعرفة الموضوعية.
ننظر إلى موضوع العدالة الاجتماعية بعين الماضي، فنقرر أن العدالة تعني سيادة قيم العشيرة، وإن الحرية تعني الحفاظ على الأعراف
إنها آراء تعتمد على الإجماع والشياع والشهرة، وتغازل العقل الجمعي، وتحيل كل ما هو شعبي إلى حقيقة، وتندرج ضمن الثقافة المهيمنة. أي أنها تغدو هوية ثابتة، وتندرج في خانة المسلّمات. تبدأ الهوية بـ"مسلّمة" يختلقها الذهن ويصادق عليها وهي أن هذا الشيء "هو هو وليس غيره"، فمن هنا يتشكّل مبدأ الهوية، وتتشكّل معها أساطيرها ومخيالها: أن تتخيل هذا الشيء كهوية صلبة غير قابلة للتغيّر، أن تتخيل ماضيك وحاضرك ومستقبلك يتمحور حول هذه الهوية، أن تفهم الوجود انطلاقًا من هذه الهوية. وبهذا المعنى تتحول الهوية إلى معاناة، لأنها تحاول مجابهة كل إمكانية جديدة للمعرفة ومحاربتها بالآراء الشائعة، وتحافظ على صلابتها المفتعلة من خلال مغازلة الحس المشترك. عند هذه النقطة بالذات سيتلاشى الحاضر ويغدو مأسورًا تحت هيمنة الماضي الذي يتجلى بهذه الهوية.
اقرأ/ي أيضًا: فرسان التغيير: الإمكانات والشروط
من جملة ما نعانيه هو الانخراط في ذلك التيار الذهني المتدفق عكسيًا صوب الماضي، لأن الماضي معروف ومألوف. معروف لأننا نستمد قيمنا وأحكامنا منه باعتباره هويتنا المتأصلة، ومألوف لأنه لا يشعرنا بالخوف، وليس وافدًا بالنسبة لنا ولا غريبًا علينا؛ لقد عايشناه منذ سنين وأصبح جزءًا لا يتجزأ من تاريخنا. الواقع الحاضر مملوك ومأسور لقيم الماضي. نتعامل مع المواضيع الراهنة بـ"مبادئ" ذهنية تمثّل خليط وعصارة الأحداث الماضية التي عاشها أسلافنا. ومنذ ذلك الحين لم يتبدل شيئًا؛ العشيرة والمذهب يشكلان بنية الثقافة المهيمنة، عليك أن تفكر وتتصرف، وتعالج الأمور، وتنظر للمواضيع بمنظار هذين المكونين الذين يشكلان آصرة تضامنية عميقة، وبمقتضى الاعتماد كل منهما على الآخر، تشكّلت العقيدة العراقية. يبقى الماضي من هذه الناحية صمام الأمان للثقافة المهيمنة، وكل خطوة نحو الحاضر فهي تعني غياب المكاسب الشرعية لهذه الثقافة.
إن اللحظة الراهنة ممتلئة بالغموض والتخفّي بالنسبة للمجتمع التقليدي وثقافته المهيمنة؛ إنها حقيقة لا تفصح عن نورها إلا بمزيد من التحجّب، ونحن نختار التمسّك بالثابت والمعطى لنا سلفًا، بدلًا من التعايش مع الأشياء كما هي. فالغامض والمُستتر مصدر خوف وقلق ويستدعي مغامرة ورباطة جأش لمعايشة الواقع الفعلي. أن تعلقنا بالماضي يأخذ صفة الألفة والاعتياد، لأنه الوحيد الذي يشعرنا بوجودنا وهويتنا، في حين يتخذ الحاضر في وضعنا الراهن صفة "العدم"! ذلك لأنه "فارغ" من الكائنات (الذهنية والخارجية) المألوفة؛ فدائمًا ما تنصهر اللحظات الآنية في هاوية الماضي. إنها تذوب وتندمج في خانة المعطيات المسبقة، فيتحول الحاضر إلى موضوع منظور إليه من جهة الماضي، فمن هذه الناحية يبدو الفكر غريبًا عن موضوعته تمامًا. ننظر إلى موضوع العدالة الاجتماعية بعين الماضي، فنقرر أن العدالة تعني سيادة قيم العشيرة، وإن الحرية تعني الحفاظ على الأعراف، والمسير خلف الرمز الأوحد، والتنظيم يعني التمركز حول الشخص واحتقار المؤسسة.
فنحن كما الأعمى الذي فقد بصره في وقت لاحق، ودائمًا ما يتخذ صور الماضي، التي أبصرها قبل العمى، ترياقًا وسلوة عزاء لحاضره المحاط بالعتمة؛ فالمألوف والمعروف سابقًا خير من حاضر مجهول! لو أن اللون الأحمر هو اللون الوحيد الذي أدركه الأعمى قبل أن يفقد بصره، فستنحصر قواه الإدراكية على هذا اللون فحسب، فيغدو كل شيء أحمرًا، وربما سيخيفه التعرف، بالكلام فقط، على باقي الألوان، ما لم يتعايشها تجريبيًا، لكنّه فاقد لصفة التجريب، ذلك أنه "من فقد حسًّا فقد علمًا". فلم تبقَ له سوى عين الماضي يبصر بها ما كان أدركه قبل العمى. ذلك الأعمى حين يتناهى إلى سمعه كلمات وأشياء جديدة، تخامره أحساسات مقلقة حول كيفية فهم هذا المجهول، فلا أدوات لازمة لهذه المواجهة سوى بعض الذكريات المٌصانة في صندوق الذاكرة. نحن الذين نشبث بالماضي وننفي ما عداه لا نختلف عن ذلك الأعمى.
تجري في الذهن مفاضلة عنيفة ومؤلمة تفعّل عملية الاجترار والتكرار لاستعادة الماضي على أنه لحظتنا الحاضرة، وتبدو الوقائع والأحداث، والانفعالات النفسية الماضية مقولات ثابتة، وصيغ منطقية راسخة ومبادئ ميتافيزيقية كما لو أنها متعالية عن التجربة، ترسم هويتنا المزيفة وتدمر لحظات الألفة الآنية، وهي على الدوام تحاكم الوقائع الراهنة قياسًا على ما كنّاه وليس على ما نحن عليه الآن. فمن هنا قد تصدق الحقيقية التالية: نحن كائنات ماضوية بامتياز. أما هؤلاء الذين يشكّلون قوة الرفض فهم المبصرون حقًا في مجتمع يضج بالعميان.
اقرأ/ي أيضًا: