ليس التغيير مؤلمًا بل ما يؤلم هو مقاومة التغيير. البوذا
إن مقاومة التغيير ليست فعلًا يدخل السكينة على الذات بقدر ما يعمّق الألم فيها. صحيح أنه قد يُشعرها بنوع من الرضا الكاذب لكنّه في العمق حزمات مُكثّفة من الآلام. إن الألم هو النسيج العميق لبنية الذات ويشكّل هويتها الموهومة، أي ما توهمناه من تصورات تجاه أنفسنا والآخرين. ولشدّة هذا الزيف يغدو كل شيء مرتبطًا وموَحَّدًا ومكتملًا بين الذات وموضوعاتها، بين الداخل والخارج، بين الفكر وموضوعاته الخارجية. هذا الترابط يمنح الذات أعلى درجات الضمان من أنها كيان ثابت وصلب ومستقر. وهذا الثبات والصلابة والاستقرار لم تقع الذات في حبالها توًّا وإنما تشكّل عصب الذاكرة البشرية وشجونها التي لا تنتهي.
فما يغدو ثابتًا ومستقرًّا ينقلب رأسًا على عقب حينما تستيقظ الذات وتعي حقيقتها، وحقيقتها هي حركة واستمرارية، سيل متدفق، تجاور ومعانقة بين الأضداد، فبالتالي تطلب الصيرورة كمالها بالحرية وعبور الهوية التي تتمثل الحقيقة، ذلك أن الصيرورة نقيض أبدي للهوية، فالأولى تمثّل "شدّة" وتكثّر وحزمة من الأضداد المتجاورة، بينما تمثّل الثانية موت الحياة وسجن الفكر في تمثّلات ثابتة ووثوقيات تحطم عناصر الإبداع وتوقّف كل إمكانية إبداعية للتفكير. فالحرية التي تتطلب اختراقًا مستمرًّا للعقائد الصلبة والقناعات الراسخة يتيمة لا تحظى بمتعاطفين كُثُر بقدر ما يحتفل بها الأفراد، وهؤلاء من يغيّرون خارطة الفكر ومن يصنعون ما لم يمكن التفكير فيه.
أمّا الأعم الأغلب فيختار الخوف والألم كنتيجتين طبيعيتين للوقوف أما حركة التغيير الهادرة. فتجري عملية ترجيح ومقارنة داخل الذات: إمّا الخوف والألم أو التضحية بمكتسبات الذات ويقينياتها وقناعاتها الراسخة، فتنساق الذات للفوز بالألم على حساب التغيير، لكي لا تتعرض الذات لانقلابة وشيكة فتضيع معها كل المسلّمات. غير أن الشعور بالألم ليس نتيجة واضحة وجليّة، أنّه يتغلغل في كل مسامات الذات دون أن نعرف مجمل أسبابه. أعني ليس الجميع مؤهلون لمتعة الاكتشاف هذه؛ متعة الوقوف على مكمن الجرح، وأن تعرف العلّة العميقة لهذا الذي يتسلل إلى حياتك في كل لحظة فيحيلها إلى لحظات مُقبضة وكابوسية، ثمّ تبحث عن الدواعي والأسباب لكنّك لا تعثر عليها.
الخوف من التغيير وتبعاته يترك جروحًا عميقةً وغائرةً في الذات، وهذه الجروح المستمّرة تعلمنا أن لا نتغيّر! ذلك أن عتبة الخوف من المجهول، الخوف من القادم، الخوف من فقدان شعورنا بالوجود، لا يقف عليها كل من هب ودب. إن الشعور بالخوف يدفعنا، وبشراسة أحيانًا للوقوف بوجه التغيير وإعلان مقاومتنا لكل وافد وجديد على الذات "هذا ما ألفينا عليه آبائنا"، فعلى هدى الآباء تسري قافلة المقاومين، ومن شذّ منهم فليس له في هذه الحياة إلّا القصاص العادل. فمن هنا يخشى معظم الناس ممّا يسمّى الصدمة الثقافية، لأنّه يصيبهم بالتشوّش والحيرة والارتباك، حينما يستيقظون فيكتشفون أنهم في وادٍ آخر فقدوا فيه نقاطهم المرجعية التي توارثوها. نقاطهم المرجعية التي اعتادوا على الاستضاءة بها لفهم العالم من خلالها. ونتذكر لحظة الارتباك الغريبة التي شعرت بها حكومة الخضراء يوم انتفض الشباب ضد مظالم السياسيين ومخازيهم، وقد أدّى هذا الارتباك إلى فظائع مهوّلة راح ضحيتها مئات الشباب، ليس لشيء سوى أن فعل التغيير الذي ترغبه الأجيال الجديدة يحرّك أعمق نقطة مرجعية في الذات البشرية؛ إنّه الخوف من التغيير، فينبغي مقاومته بأي ثمن! لذا، إن كل من يقف حائلًا بوجه التغيير( تغيير الذات والآخرين) فهو محكوم بهذه الدائرة القدرية التي لا مهرب منها: إنها دائرة الخوف والألم المغلقة.
اقرأ/ي أيضًا: