أتذكّر إنّي طالعت كتابًا يحمل عنوان "الحرب النفسية" قبل 20 عامًا، لجنرالٍ مصريّ لا يحضرني اسمه. لا أتذكّر منه سوى هذه القصة، ومضمونها: في أيام النكسة، أشاعت المخابرات المصرية، إن مريم العذراء تمشي ليلًا في شوارع القاهرة، لصرف أذهان الناس عن الهزيمة العسكرية في 1967. وسواء اختلطت علي ذاكرتي أم لا، تبقى القضية الجوهرية في دلالة هذه القصة وشاهدها مهمة، وتسلّط الضواء على ما يجري من مهزلةٍ كبرى في العراق بخصوص المزارات المزيفة التي ينحتها ويصوّرها أرباب الديانة الشعبية في وسط وجنوب العراق، وانصياع جمهورٍ غفير لهذه المراقد الخرافية؛ إذ يمكنك في العراق أن تصنع مزارًا بنفس السرعة التي تحضّر فيها شطيرة فلافل، ولمجرد أن تقصص رؤياك إلى الناس بخصوص المزار الجديد، فسيحصل هذا الأخير على أوراق اعتماده بسرعةٍ فائقة تتعدى سرعة الحصول على أوراق اعتمادك لو كنت سفيرًا. ما عليك سوى تنسيبه إلى آل بيت النبيّ، وبهذا ستحظى بالحُسنَيَين: المال والجاه.
يمكن لجرارٍ زراعي عاطل في أحد الأراضي الزراعية أن يتحول إلى مزارٍ مقدّس، وتحاط به الخرق الخضراء من كل جانب، أو عمود كهربائي مسكين يبتسم له الحظ ليغدو منارةً "مقدّسة" يقصده المحرومون من العيش الكريم ويتبركون به
تشير أحد التقارير إلى أن من بين المصابين بحالات الرؤيا هذه، المواطن جواد كاظم حميدي، والذي بادر لرواية حكايته لأحد القنوات التلفزيونية، قائلًا، إنه "قبل 5 سنوات كنت جالسًا في حديقة منزلي وإذا بالنعاس يغلب علي، وتأتيني حينئذ الرؤيا، وأجد نفسي فجأة واقفًا أمام رجل محاط بالنور ويقول لي "أنا السيد احمد المبرقع الموسوي من أحفاد رسول الله، أتيت من إيران لزيارة جدي الحسين في كربلاء أيام العباسيين، وقد قتلت مع ابني وزوجتي ودفنت في حديقة منزلك هذه تحت شجرة السدرة".
اقرأ/ي أيضًا: صراع طائفي على مراقد الموصل القديمة.. المنازل أهم أم المساجد؟
إنه كسبُ سريع يتّخذٌ من مافيات الفساد مُلهمًا، فإذا فسدت السلطة فسد كلُ شيء تمامًا، والناس على دين ملوكهم كما يقال. إنّه احتلال من نوع آخر، تتجه فيه أذهان الناس إلى الشعوذة والدجل والتشجيع على الديانة الشعبية، يقابلها خواء شعبي فيما يتعلّق بالمطالبة بالحقوق المدنية والسياسية. فالمزار الملفوف بخرقٍ خضراء هو سلوة عزاء وسط هذه العدمية المتفشية في المجتمع العراقي. وكالعادة يغط جماعة الخضراء في نوم عميق وضمير مرتاح وكأنهم في كوكبٍ آخر.
يمكن لجرارٍ زراعي عاطل في أحد الأراضي الزراعية أن يتحول إلى مزارٍ مقدّس، وتحاط به الخرق الخضراء من كل جانب، أو عمود كهربائي مسكين، في أحد الأقضية الفقيرة في الفرات الأوسط، يبتسم له الحظ ليغدو منارةً "مقدّسة" يقصده المحرومون من العيش الكريم ويتبركون به، عسى أن يكون تعويضًا مرتقبًا عمّا سلبته منهم السلطة في وضح النهار.
لقد أحصى الباحث الإسلامي عباس شمس الدين، في كتابه "المراقد المزيّفة"، عدد القبور المزيفة في الفرات الأوسط وجنوب العراق وقد تجاوز عددها 19 قبرًا لما يسمّى "بنات الحسن"، والحقيقة أن بنات الحسن، كما يؤكد شمس الدين، 5 بنات فحسب، كما أن الأمام الحسن بن علي لم يزر أرض الرافدين فضلًا عن بناته.
وقصة المزارات المزيّفة ليست غريبة ولا هي وليدة أوانها؛ ففي التسعينيات كان لمرقد "علي ابن الحسين" في قضاء المحاويل، الذي يقع في الجنوب الغربي لمحافظة بابل، حصة الأسد من الخرافات، فتصدّى لها المرجع الراحل محمد محمد صادق الصدر، ووقف بوجه البدعة آنذاك وحطم خرافة هذا المرقد، وامتنع مقلدوه من الذهاب إلى هناك. غير أن المرقد بقي شاخصًا، فما يُلزِم أتباع الصدر لا يُلزِم غيره، ذلك إن المتشرعين الشيعة لا يجمعهم مرجع واحد، وبالخصوص مرجعٍ مثل محمد محمد صادق الصدر الذي أثار جدلًا واسعًا بين الأوساط الشيعية في حينها. والمهم في الأمر، أنّه وقف في وجه هذا المرقد الخرافي وخفّفَ من زيارته إلى حدٍ كبير.
تحوّلت هذه المزارات إلى "مراكز طبيّة"، بل أطرف من ذلك بكثير: هناك مزارات متخصصة بالأمراض المستعصية، ويصر مبتدعوها أنهم "مكلفون" بواسطة الرؤيا.. إذ يحلَ عليه أحد أسلافنا الغابرين ليسرد له ما حل به من نسيان، ثم يسرد سيرته مفصّلةً مثلما يفعل المؤرخون الأفذاذ، فيوثّق صاحب الرؤيا هذا الحدث "المقدّس" ليتوافد عليه الناس من كل حدبٍ وصوب، وينفتح عليه باب الرزق على مصراعيه.
ومن باب الإنصاف، أن الأمر لا يتوقف على تقصيرٍ من المراجع الدينية، في هذا الحدث بالتحديد، وإنما يتعلّق بالذات في هذا البحث المضني من الناس عن نقاط مرجعية أمينة، بعد أن أفلسوا عن مرجعياتهم المؤسساتية التي تضمن لهم العيش الكريم. لا أقصد إنهّا ردود أفعالٍ مباشرة تجاه ما يحدث، بل هو فعل رمزي في لا وعي الناس كترجمة أمينة للعدمية التي تحيط بهم من كل جانب، فلم يجدوا سوى مثل هذا الحطام ليضفوا عليه سمات القداسة، ذلك إنّ المقدس ليس شعورًا عابرًا، وإنّما بنية راسخة في الذهن البشري، كما يقول مرتشيا إليادة. فيتّوسّل الناس رموزًا وحكايات ومواقف كتعويض مفرط لما سلبته منهم السلطة. فهل ثمّة من غرابة أن تكون حصة المحافظات الفقيرة من هذه الخرافات واسعة للغاية؟، بل إنّها تتمركز في هذه المحافظات حصرًا، أعني محافظات الوسط والجنوب، وبالتحديد المناطق الريفية الفقيرة.
أبرز الأسباب في تفشي المراقد المزيفة هو غياب المؤسسات التعليمية والسياسية والاقتصادية، إذ أن غياب الدولة يخرج الأفاعي من جحورها، وتظهر الناس أسوأ حواصل ظروفها
قد يكون الموضوع أبعد من ذلك بكثير، وإن اختلفنا على الأسباب أعلاه، فثمّة خطوط عريضة يمكننا الاتفاق عليها، ومنها غياب المؤسسات التعليمية والسياسية والاقتصادية، بإيجاز: غياب الدولة. إن غياب الدولة يخرج الأفاعي من جحورها، وتظهر الناس أسوأ ما فيها في غالب الأحيان، ويتحوّل الإنسان إلى "ذئب لأخيه الإنسان"، على حد تعبير توماس هوبز، فللدولة هيبتها ونفوذها، وإذا عُرف السبب بطل العجب.
اقرأ/ي أيضًا: