قلنا في المقالة السابقة إن ارتباكَا يحدث إذا ما مارست الحركات ذات الآيديولوجية المتشددة مضطرّةً لعبة الانتخابات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فممارسة الديمقراطية تفرض على اللاعبين قواعد محددة رغم وسعها، وتفرض شروطًا لازمة للنجاح والاستمرار في المضي بطريق الانتخابات الدورية التي تستلزم المحافظة على الجماهير مع حدٍ فاصل "مرئي" مع "الآخر"، وليس بُعدًا قاطعًا يقوم على العداء الشرس الذي يصل إلى حد التكفير والاقتتال.
الدورات الانتخابية تفتت الجماعات الأقل قدرة على إقناع الجمهور بفكرة وجود عدو يستهدفها
في الديمقراطيات الطبيعية - غير المريضة كأنظمتنا - هناك ناخبون مترددون، أو غير مؤدلجين، أو مناطق يُطلق عليها "ولايات متأرجحة" كما في الحالة الأمريكية، غير منتمين لقواعد منظّمة تَحسم أمرها حتى قبل حملات الترويج الانتخابية، ويُمكن أن نطلق على هذه الفئة "الحلقة الوسط"، والتي تتصارع عليها الأحزاب من أجل ضمّها لطرفها، وقد تَحسم نتيجة الانتخابات... في مثل هذه الديمقراطيات لا يُمكن للأحزاب أن تقطع مع من يقفون خارج أسوارها وتخسر الحلقة الوسط.. فالحياة الديمقراطية بالعداء، ودون قواعد ثابتة للتنافس، مستحيلة، وإن حدثت فهي لم تكن ديمقراطية من الأساس.
اقرأ/ي أيضًا: الحركات المتشددة.. معادلة الأتباع و"الآخر" (1ـ2)
وبالعودة إلى الحركات أو الأحزاب المتشددة فأنها لا ترى تلك الحلقة الوسط ولا تعنيها بشيء، فأساسُ تحشيدها قائم على استعداء الآخر أو تكفيره، بل أن الآخر بوصفه عدوًا هو شرط وجودها، والقوة التي تمنحها المغناطيس الجاذب للأتباع والمحفّز على البقاء والقتال. الآخر هو شرط تحقيق الفكرة التي تضفي معنى للجماعة إياها.
علينا ألّا ننسى في سياق الحديث عن الحركات المتشددة و"التكفير"، ذكر أن ذلك لا ينطبق على أصحاب الفكر العقائدي فحسب، فكما هناك من يكفّر، هناك من "يخوّن"، في حالة الأحزاب والتنظيمات الوطنية والقومية.
لا يعني ذلك أن الأحزاب المنصهرة في العملية الديمقراطية ليس لديها خصوم، فوجود "مقابل" هو أساس اللعبة الديمقراطية؛ لكن الاختلاف هنا في الدرجات والأفعال ونوعية الجمهور وطريقة شدّه، فضلًا عن النظرة للحلقة الوسط، فالجماعات المتشددة لا ترى هذه الحلقة، وهي غير موجودة بالنسبة لها، أما "الآخر" فهو من يشكّل وجودها في الواقع؛ لكنها في نفس الوقت لا تجد أي مشتركات معه، أو إمكانية للتعايش ضمن نظامٍ ما يتفقان عليه. النظام الوحيد الممكن هو الحرب، التوتر، العداء، التحشيد الدائم غير المنتهي.
لقد رأينا حالة الاستقطاب الحاد في سنوات ترامب الأربع وطريقة شدّه للجمهور، وهي من زاوية، وبنسبة معينة، قريبة من الجماعات المتشددة التي تبني قواعدها على الاستعداء. يكون بناء المجموعة أفقيًا وعموديًا وفق خارطة لا تقبل اللين مع الآخر، وتحذّر من أنه سيقضي على "نحن".. ومع ذلك، ورغم نجاح ترامب بعملية الاستقطاب، إلا أن الديمقراطية لم تسمح له بالمضي حتى النهاية، على الأقل إلى غاية كتابة هذه السطور.
تحدثنا عن طبيعة سياسة الجماعات المتشددة في الجزء الأول، وتطرقنا إلى الحالة التي تنشأ في نظام ديمقراطي، لكن حالةً ثالثةً وجدت في منطقتنا العربية وفي العراق تحديدًا، وهي وجود تلك الجماعات بنمطها المتشدد والرجعي، مع ضعف في النظام الديمقراطي الذي لا يستطيع كبحها، وهو ما يولّد الارتباك الذي يُحل عن طريق المحاصصة التي تخلق نوعًا من التعايش الوقتي.
إن الخبر الجديد، هو عدم قدرة نظام المحاصصة على احتواء الأحزاب القائمة على أفكار آيديولوجية متشددة، سواءً عقائدية وطائفية كما عند عرب العراق شيعةً وسنةً، أو قومية كما هي عند الكرد.
مع أن الطائفية بدأت بالتآكل بفعل الخراب الذي أنتجته، وفقدت العديد من الجهات ذات التأييد الشعبي المُعتبر شعبيتها، لكن أطرافًا لا زالت تحتفظ بقواعدها الجماهيرية المبنية على التشدد، وهي مستمرة في ضرب الديمقراطية وتطورها بمواصلتها تغذية الاستقطاب العدائي.
لا يقود الأداء السيء لجهة آيديولوجية ما إلى فقدان قاعدتها الجماهيرية طالما بقيت تُحافظ على وجود "آخر" يُهددها وإن كان وهميًا. ومن هنا، فأن الدورات الانتخابية تفتت الجماعات الأقل قدرة على إقناع الجمهور بفكرة وجود عدو يستهدفها، وليست الأقل قدرة على إقناع الجمهور بقابليتها على التطوير والإصلاح وتحسين معيشة الناس.
كذلك، لا يؤدي الضغط المسلّط من الخارج على الجهات الآيديولوجية المتطرفة إلى تفتيتها وتقليص أتباعها، بل على العكس، وقد تؤدي تصرفات طائشة أو رعناء لهذه الجهة أو تلك إلى فقدان التعاطف أو تأييد أو ثقة المحيط (الحلقة الوسط) لها؛ لكن الداخل، أي القاعدة، ستُشد إلى بعضها البعض أكثر، وكأن المعادلة هي الآتي: كلما كثُر الضغط الخارجي ازداد شدّ الداخل.
في الحالة الكردية، استخدمت الأحزاب المتشددة الخطاب القومي المتشدد ضد العرب وبغداد في المراحل كافة، حين أعطتها الأحزاب العربية الكبيرة ما تُريد في مواد الدستور، وما تُريد في وزارات الدولة، وحين أغرقتها في وقت الموازنات الانفجارية، وحين قطعت عليها الأموال السخية بفعل الأزمة الاقتصادية، وحين عادت في زمن عادل عبد المهدي إلى دلالها السابق. الثابت الوحيد هو وجود "آخر" يجب أن نكرهه، وقد نجحت هذه الاستراتيجية في إسكات الشعب الكردي عن تردي حالته المعيشية وتأخر واستقطاع الرواتب، فقد كان العرب هم "الآخر العدو" في زمن الرخاء، لذا فمن الطبيعي أن يكونوا هم الآخر العدو الذي يريد إخضاعنا وتجويعنا في زمن القحط.
في الحالة السُنية، كان للقادة الأوائل على اختلافاتهم الثقافية آيديولوجيةً ثابتة، وكان المتشددُ منهم والأكثر خطابًا كراهيًا ضد الآخر هو الأكثر شعبيةً في الأوساط السنية في وقت الاستقطابات الحادة، ثم تآكلت هذه الحالة لعدة أسباب يطول شرحها، أهمها الضربات التي تلقاها المجتمع وحمّلهم مسؤوليتها.
الاستراتيجية التي ستجعل التيار الصدري هو الأقوى بين أقرانه في المرحلة المقبلة، تحشيد قاعدته الجماهيرية في الانتخابات القادمة ضد "التشرينيين" أو "العلمانيين"
لاحقًا، صارت الصفقات وتوزيع المناصب هي الشغل الشاغل للنخب السنية، الشابة الصاعدة منها خاصةً، وهي الأقرب للنموذج الكردي. ونشأت هُنا حالة التنافر بين استخدام المظالم الحقيقية للطائفة في الخطاب، وبين الجلوس مع الآخر الذي يُسيطر بشكلٍ فعلي وعسكري ويُمارس تلك "المظالم" في مناطق الطائفة، بل والتخندق معه كما في حالة تحالف البناء، ما شكّل تعارضًا شوّه البناء العمودي والأفقي للأحزاب وتحديدًا كتلة محمد الحلبوسي الأقوى حاليًا، وخلق حالة الارتباك التي تعيشها الطائفة سياسيًا الآن.
اقرأ/ي أيضًا: الدين و التديُّن.. هل للتعصب هوية؟
في الحالة الشيعية، ساهم وجود "آخر متطرف" عنيف يستخدم الإرهاب غير المحدود ضد الشيعة في تقليل (أو تأجيل) غضب الجمهور اتجاه حركاتهم وأحزابهم خاصةً مع الفشل في البناء والإعمار والعيش الكريم وتوفير الخدمات مقارنةً مع الإقليم الكردي، رغم أن استحواذ الطائفة على رأس الجهاز التنفيذي، والخراب والفساد الهائل العلني، كان عاملًا حاسمًا في إضعاف القدرة على التحشيد.
بقيت أحزاب كثيرة تحتفظ بقاعدة جماهيرية رغم الانهيارات الأمنية المتعاقبة والنتائج المذكورة أعلاه، لكن الفارق عن الكرد كان في مفصلين حاسمين: الأول هو اصطدام الخطاب الطائفي المتشدد ضد "الآخر" بصفقات وتحالفات معلنة مع هذا الآخر ذاته، فمبررات الجانب الكردي وتغذية حلم الانفصال المؤجل غير موجودة لدى المكون الأكبر في العراق ذو الأغلبية الاجتماعية والسياسية. أما الثاني، فهو مشاركة التيار الصدري في الاحتجاجات ضد الأغلبية الشيعية وإدامتها في ذروة التحشيد الطائفي، وقد فتح بذلك باب النقاش في قضايا أخرى غير الطائفية.
والمفارقة هُنا، أن التيار الذي ساهم في إضعاف الاستقطاب الطائفي والشد الحاصل بين الحركات المتطرفة، بات الآن الطرف الأكثر استخدامًا للخطاب المتشدد لكن ليس ضد الطائفة الأخرى، بل ضد طائفة اخترعها هو وأطلق عليها "الفاسدون في تشرين". وبعد أن شدّ جمهوره ضد "الآخر" من الطائفة ذاتها لأسباب عديدة في الانتخابات السابقة، نتوقع – وهو قد بدأ الآن – أن يحشّد قاعدته الجماهيرية في الانتخابات القادمة ضد "التشرينيين" أو "العلمانيين" الذين يريدون إفساد المجتمع وتقاليده ويتآمرون مع الأمريكان ضد العراق والإسلام! .. وهي استراتيجية ستجعله الأقوى بين أقرانه في المرحلة المقبلة، ولنا حديث مفصل في ذلك لاحقًا.
اقرأ/ي أيضًا: