ظلت الجامعات العراقية طوال عقود حكم البعث، ومن ثم النظام الذي أرساه الاحتلال الأمريكي بعد غزو بغداد في نيسان/ أبريل عام 2003، متماهية مع السلطة ومهادنة لها، بل إنّها سائرة في ركبها وتعمل وفق توجهاتها.
صمتت المؤسسة التعليمية أمام ترييف الجامعات وتحويلها إلى ثكنات عسكرية وحسينيات للطم وجوامع للدعاء
ففي تسعينيات القرن الماضي على وجه التحديد، حين وصل العراق إلى مرحلة الخراب المطبق، أفردت الجامعات العراقية أعوام ذاك العقد لتنتج أطاريح ماجستير ودكتوراه تتحدث عن أقوال "القائد الضرورة" وأحاديثه التلفزيونية وخططه العسكرية والاقتصادية، واعتبرت تلك الأطاريح كلّ ما نتج عن صدّام مثالًا على جميع الدول أن تحتذي به، وأن تسلك طريقه للوصول إلى الكمال في إدارة الدول.
كان كتّاب هذه الأطاريح، الذين يحصلون على درجات الامتياز نتيجة لموضوعات أطاريحهم، سرعان ما يصبحون أساتذة في الجامعات ذاتها، ومدراء عامين في المؤسسات الحكومية، لاسيما الثقافية منها. كلّ هذا كان يتم تحت إشراف أساتذة أنتجتهم الدائرة نفسها، دائرة البعث الذي سيطر على المؤسسة التعليمية وعسكرتها وجعلها "بوقًا" لأيدولوجيته. ورغم أن هذا كان يحدث تحت سلطة دكتاتور مجنون يقبض على البلاد بيد من فولاذ، ويزرع الآذان في حيطان المكاتب والمنازل؛ إلا أن ما يحدث في العهد الحالي، في العراق الكولونيالي، لم يختلف كثيرًا: لقد صمتت المؤسسة التعليمية أمام تزييف الجامعات وتسطيحها وتحويلها إلى ثكنات عسكرية وحسينيات للطم وجوامع للدعاء والخرافة. ارتضى أغلب الأساتذة لأنفسهم بأن تُدار مؤسساتهم من أشخاص حزبيين أُميين، علاوة على قبولهم الإتيان بوزير للتعليم العالي تنتجه المحاصصة الطائفية بين الأحزاب التي تتقاسم السلطة والنفوذ.
ونتيجة لبلوغ هذا المبلغ، لا يذكر أحد من الطلبة أن هذه المؤسسات حرّضتهم على السلطة الحاكمة، أو شكّلت مجموعات ضاغطة لا ترضى بتحويل الجامعات إلى مفاقس للجهل والتخلّف. لا يذكر أحد أيضًا أن الجامعات فتحت أبوابها لنقاش حركات الاحتجاج التي تنطلق كل عام، وليس هناك، بطبيعة الحال، أبحاث ومجلاّت محكّمة تصدرها هذه المؤسسات تفكك بنية السلطة التي تحكم العراق وتنهبه.
والحال هذه، لا يبدو مستغربًا أن تُخرِّج هذه المؤسسات مزيدًا من الطلبة الأميين كلّ عام، سيبدو واضحًا حجم الخراب على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي حيّن يعلّق هؤلاء المتخرجين على الأحداث العراقيّة المتفاقمة بطرق سطحيّة وطائفيّة، فضلًا عن الأخطاء الإملائية والنحوية التي تملأ تعليقاتهم. لكن متى رأى العراقيون أساتذة الجامعات يحملون لافتات ويقفون في الشوارع ويهدّدون الحكومة بالإضراب؟
لم تعلن الجامعات العراقية، كمؤسسات، الاحتجاج على الحكومة وسياستها التي أدّت إلى إفقار العراقيين وهدر كراماتهم
لم يكن هؤلاء (اللهم إلا أفرادًا منهم)، في تظاهرات ساحة التحرير وسط بغداد. ولم تعلن الجامعات، كمؤسسات، الاحتجاج على الحكومة وسياستها التي أدّت إلى إفقار العراقيين وهدر كراماتهم.
فقط حين عُدِّل سلّم الرواتب في العراق، والذي أضرَّ بمرتبات الأساتذة، خرجوا أمام مؤسساتهم التعليمية، ورفعوا لافتات تُدين عمل الحكومة. مسّتهم النار فخرجوا لأجل إطفائها، أما قبل ذلك فلم يكن الأمر يعنيهم كثيرًا، كانوا صامتين متمتعين برواتبهم العالية، قابعين في بروجهم العاجية بمعزل عن الشعب الذي يتلوى فقراؤه جوعًا وعوزًا وبطالة. لم يقرأ هؤلاء المشهد جيدًا، ولم يستقرأوا مآلات البلد الذي اجتاحته حمى الفساد لتوقعه في أزمة اقتصادية خانقة بعد أن نهبت ميزانياته على مدى الأعوام التي أعقبت الاحتلال، إلى أن وصلت الموس لأذقانهم.
معظم الثورات قادها مثقفون وفي طليعتهم أساتذة الجامعات، وفجرها الطلبة، حتى أن قاموس الثورات تكاد أن تتصدره ثورات الطلبة سواء في أوروبا أو في البلدان الفقيرة، لكن الفوضى التي عمّت العراق اكتسحت جامعاته أيضًا، وبدلًا من الثورة، أصبحت الجامعات جزءًا من منظومة الفساد وليست جزءًا من منظومة الثورة على الفساد، خاصّة ما يخص الهيمنة الحزبية على الحرم الجامعي وتدفق أعداد الشهادات المزورة وتدني المستوى التعليمي. فهل يخلق سلم الرواتب الجديد صحوة الجامعات كما خلقها في قطاعات أخرى؟
اقرأ/ي أيضًا: