كَثُر الحديث عن إصلاح النظام السياسي، بغية الخلاص من المحاصصة الطائفية، بوصفها جذر للفشل الذي أصاب العملية السياسية بعد عام ٢٠٠٣. الفشل الذي لم يُعترَف به صراحة، إلا أن الاحتجاجات الشعبية، في عام ٢٠١٥، أدت إلى ظهور الدعوة إلى الإصلاح، الذي بات حديثًا يتصدر المشهد السياسي، بعد سلوك التيار الصدري سبيل الاحتجاجات، وهذا ما ألقى بظلاله على مفاوضات تشكيل الحكومة لاحقًا، وانهيار الاصطفاف السياسي على أساس طائفي، ليصبح خطابُ رفضِ المحاصصة وفسادها، الدعايةَ المفضلة لأغلب القوى السياسية في انتخابات آيار/مايو ٢٠١٨. حيث تبنّت القوى السياسية شعارات وطنية، واستبدلت الإسلامية منها منهاجها، بخطاب وطني متمدن. فتبنت دولة القانون حكومة الأغلبية، والحكمة دعت إلى تشكيل حكومة أغلبية وطنية، والجميع يدعي، أن ما يتبناه هو السبيل لانتهاء حقبة حكومات المحاصصة.
"حكومة التكنوقراط" ومع فرض تطبيقها لن تمس جوهر المحاصصة فهي محاولة لمعالجة أثر من آثارها، خاصة أن المحاولات الرامية إلى الإصلاح لم تتطرق للجذر الدستوري للمحاصصة
إلا أن الدعوة إلى حكومة التكنوقراط، كبديل للحكومات المُشّكلة على أساس محاصصاتي. كانت الأكثر إثارة للجدل بين القوى السياسية، لكنها ومع فرض تطبيقها، لن تمّس جوهر المحاصصة، فهي محاولة لمعالجة أثر من آثارها، وتعامل مع نتائجها. بل لا تشكل مانعًا، من الإتيان بوزراء تكنوقراط ومنتمين لأحزاب وقوى مشاركة في تشكيل الحكومة، ووفقًا للعرف التوافقي، والتوافق وجه من وجوه المحاصصة.
اقرأ/ي أيضًا: معركة التكنوقراط في العراق.. المحاصصة توحد الأضداد
لم تتطرق تلك المحاولات الرامية إلى الإصلاح للجذر الدستوري للمحاصصة، متمثلًا بمقولة "التوازن بين مكونات الشعب العراقي"، والتي على أساسها ارتكزت بنية النظام السياسي. فالرئاسات الثلاث، تستند إلى التوازن في شغل مناصبها، حتى المؤسسة العسكرية، لم تكن بعيدة عن هيمنة فكرة التوازن بل الشعار والعلم، وغيرها من القضايا، التي اشترط الدستور في تشريع قوانينها، التوازن ما بين المكونات.
وجدت الأحزاب السياسية في هذه المقولة، ما تشيد عليه بنيانها، وعلى أثر ذلك، تصاعد الخطاب الطائفي ومنذ ٢٠٠٣، المُغذي لتصارع المكونات، والمُعبَر عنه بتصارع القوى السياسية فيما بينها، على المناصب والنفوذ، ذلك الصراع؛ خلع قناع التوازن، فهو الوجه المهذب للطائفية، وجذرها المشرعَن دستوريًا.
تجسد الصراع بشكل اقتتال طائفي في عام ٢٠٠٥، يغذيه الخطاب الديني المتطرف، والمرتكز على صراعات التاريخ، ومقولات الثأر والمظلومية. التخندق الطائفي الناجم عن ذلك الاقتتال تم استثماره سياسيًا، وانتخابيًا. فاصبحنا أمام نظام طائفي انتخابي، لا ديمقراطي كما جرى الحديث عنه.
الحلول التي طُرحت من أجل القضاء على الطائفية، كانت مقتصرةً، على إنهاء الاقتتال الطائفي، فخطاب توحيد الشعب، ومبادرات المصالحة الوطنية، ظلت تتحدث عن أخوة (السنة والشيعة) إسلاميًا، وعن ضرورة الوحدة الطائفية لا الوطنية، جاء ذلك الخطاب وهو يعزّز حالة المكوناتية في ذهن الفرد، ويؤسس لشعوره بأنه فرد في جماعة، ولكل جماعة هوية، تعدد الهويات لا ينتج إلا الصراع فيما بينها. فظلت الهوية الوطنية، ومقومات بناء الدولة طيِّ التزاحم ما بين المكونات، التي باتت أوطانًا متخيلة في ذهن كل جماعة، وحلّت محل الوطن الأصيل.
جاءت لحظة احتجاجات الحقوق، التي اندلعت في محافظات الوسط والجنوب في صيف ٢٠١٨، وظهر معها خطاب شعبي، وهو يتضمن مسائلة من في السلطة، عن الوطن، وعن حقوق المواطنة، وهنا نقطة التحول المعول عليها، احتجاج لأجل الحقوق المقدسة للمواطن، لا احتجاج لأجل مظلومية المكون.
فتحت تلك الاحتجاجات، الباب أمام خيار الدولة، واستعادة مقوماتها، وخيار عودة المواطن إلى ذاته (المواطِنة)، وهي بذلك تجسد حالة انعتاق من هيمنة الانتماء المكوناتي، المفضي إلى خيارات المحاصصة وفسادها.
(الجماعة المواطِنة) التي يربطها نسيج الانتماء للوطن، هي شرط أساسي، لتشكل دولة وطنية، بدستور خالٍ من مخاطبة الشعب كمكونات. دستور يؤسس للعدالة والمساواة بين المواطنين، لا للتوازن المكوناتي.
لا جدوى من إصلاح خجول، لا يجتاز سور الطائفية، أو يمّس الدستور المؤسس لها. بل لا يحيد عن مسار التوافق وشروطه؛ فهو شراكة ما بين الأحزاب المتنفذة في تقاسم الدولة
لا جدوى من إصلاح خجول، لا يجتاز سور الطائفية، أو يمّس الدستور المؤسس لها. بل لا يحيد عن مسار التوافق وشروطه؛ فهو شراكة ما بين الأحزاب المتنفذة في تقاسم الدولة. نفوذًا، وثروة، بل ومؤسسات. متى ما استبدل شعار الإصلاح، بخيار العدول عن مسار التوافق، والبدء باجتثاث شرط توازن المكونات من مواد الدستور، عند ذلك يمكننا أن نتحدث عن خيار الدولة الوطنية، وبناء مؤسساتها، وفق أسس وطنية.
اقرأ/ي أيضًا: