ليس بالضرورة أن نتمتع بموهبة الشعر، فاستخلاص الصور الشعرية، كما يبدو، لا يتوقف على صياغة قصيدة شعرية، بل يكفي أن نتمثّل الواقع كما تشتهيه أمنياتنا. فيغدو الواقع منظورًا إليه بقلب الشاعر لا بعقل المفكر. يكفي أن نحلم بماذا نريد، وما على الواقع إلّا أن يهرول مسرعًا للتكيف مع قصائدنا الشعرية. ولعل مواقع التواصل الاجتماعي مختبرًا مثاليًا يترجم قصائدنا الشعرية ويضيء النصوص الغامضة التي يغلب عليها ظاهرًا طابع التفكير السليم! وبالمناسبة هذه ليست نوايا شريرة، على العكس من ذلك، هي محاولات طيبة وسط ثقافة تدفعنا دفعًا للتفكير بطريقة شعرية! لأنها تغلق علينا كل منافذ الواقع فتنفرد في حراسته والسهر عليه خوفًا من أي لحظة تغيير ممكنة.
المقارنات بين الاشتراكية والرأسمالية هل أصبحت قضية رأي عام، أم هي محاولات للانتصار لهذا الفريق أو ذاك مثلما تعلمنا من ثقافتنا الاستهلاكية؟
فلنأخذ مثالًا عن طرق تفكيرنا، وبالخصوص حول المقارنات المستمرّة بين الاشتراكية والرأسمالية. أنا لا أبحث عن الدوافع هنا فيما لو كانت تنطلق من باب تمضية الوقت وقتل الفراغ، أو الإخلاص والتفاني لما يؤمنون به، وشخصيًا أميل إلى حسن الظن في هذه الدوافع كما وضحت أعلاه. كما لا يعنيني ماذا يكتب الناس، أو تحديد ما هو الخطأ وما هو الصواب، فلا حاجة للتذكير بهذه المسلّمات. بمعنى أنها محاولة استفهام لما يجري بالتحديد واستنطاقها للتعلّم على التفكير، مع الاحترام الشديد لكل ما يُطرح.
اقرأ/ي أيضًا: نضال التغيير ضد حماة "الأعراف المقدسة"
المقارنات بين الاشتراكية والرأسمالية هل أصبحت قضية رأي عام، أم هي محاولات للانتصار لهذا الفريق أو ذاك مثلما تعلمنا من ثقافتنا الاستهلاكية؟ هل ثمّة شروط واقعية لهذه الكتابات تؤيدها معطيات الواقع؟ السؤال الأهم: أين الدولة من كل هذا في العراق تحديدًا؟! فالاقتصاد يحتاج إلى هياكل إدارية ومصرفية وسياسية ضخمة، ودولة حاضرة وقوية، وليس لكتابات تناقش تجربة الاتحاد السوفيتي، وتذكّر الناس بأشرار الاشتراكية وقديسي الرأسمالية، أو العكس هو الصحيح.
إن الإيمان بهذه الأفكار ما لم يتحوّل إلى قوة سياسية واجتماعية، أي ظاهرة لها سماتها الواضحة، فلا نتردد بوصفه ترفًا ذهنيًا حتى لو كان ينطلق من دوافع مخلصة. لم يكن لكتاب رأس المال قيمة تُذكر لولا وجود الرأسمالية، أي أن ماركس لم يبدع هذا المنهج من فراغ، بل أخضع تاريخ أوروبا وتحولاتها التاريخية ومن ثم القفزة الرأسمالية الهائلة التي نقلت هذا التاريخ نقلة لم تحدث من قبل، فأخضع كل هذا التاريخ إلى عملية تحليل مضنية. والطريف أن ماركس ترك جهازه المفاهيمي الضخم حينما انتقل لتحليل الشرق لأنه لم يكن يمضي أوقات الفراغ! وإنما يتحرك طبقًا لمعطيات الواقع، إذ وجد الشرق يتمتع بنمط إنتاج يختلف عن أوروبا. خلاصة الأمر، تتخذ الكتابات والمقارنات طابعها الجاد متى ما توفرت لها معطيات تؤيدها في الواقع.
حسب وجهة نظري، ولست متيقنًا بصحتها، إن السياسات الاقتصادية التي يقوم بلد ما بتطبيقها تنبع من جهد مؤسساتي ضخم: مناهج علمية وخبراء متخصصون، وبنية تحتية تستوعب كل التفاصيل التي تتمخض من هذه السياسات. أما الكتابة فتأتي لاحقًا، لأنها نتيجة للتجربة الاقتصادية المعمول بها. ليس الأمر بهذه الحرفية طبعًا، لكن على الأقل أن يتواجد النموذج مع هذه الكتابات ويسيران جنبًا إلى جنب ويعتمدان ويطوران بعضهما البعض. إن النظرية تفقد بريقها وصحتها في اللحظة التي تفقد فيها صلتها بالواقع، وتغدو عبارة عن تصورات لا تاريخية تفتقر للتطبيق العملي. يكفي أن نتذكر صرخة روزا لوكسمبورغ وهي تصف التجربة السوفيتية إذ تقول ما مضمونه: هذه ليست دكتاتورية البروليتاريا بل دكتاتورية البيروقراطية. إذا كانت النظرية بهذا الحال فكيف بالأمنيات الشعرية؟
نحن بارعون بتطوير آليات سحرية تنشغل كثيرًا بتطوير الذات ولا تنشغل بتطوير الواقع. فتطوير الذات بمعزل عن واقع يحتضنها ستكون أثمانها النفسية ضخمة ومؤلمة، يكفي أنها تقذف بصاحبها في سجن الاغتراب المظلم. ثمّة كوكبة من الشباب المستنير بذلت جهدًا كبيرًا في تعريب المواد العلمية على المستوى المرئي والمسموع والمقروء، وقد توفرت الكثير من الكتب العلمية المهمة في هذا السياق، لكن نقطة الضعف القاتلة في هذه الجهود النبيلة - وبالطبع لا يتحملها الشباب - هي غياب الحاضنة المؤسساتية لهذه الجهود. فنح نعلم جيدًا ما جدوى قراءة كتاب في البيولوجيا، أو الفيزياء، أو الهندسة الوراثية. نحن مثقفون بنظرية الانفجار الكبير، بنظرية التطور، بالهندسة الوراثية، بالفيزياء الكميّة، لكنها في نهاية المطاف ثقافة أفراد ولا تمثل مزاجنا الثقافي الذي ينشغل بقضايا خارج فلك التاريخ. ومقاومة الأفراد في مثل هذه الثقافة لا تختلف عن مقاومة فص الملح لأمواج البحر. فتبقى هذه المحاولات تحمل طابعها الفردي ولا تبدي تأثيرًا اجتماعيًا ملحوظًا.
إن الاقتصاد لا يشذ عن هذه القاعدة، فلا الأمنيات ولا الكتابات يمكنها أن تغير الواقع ما لم يتوفر معها المناخ المناسب، وهو المؤسسات التعليمية والمختبرات العلمية ونخبة من الباحثين. الجدوى الوحيدة من كل هذه النشاطات لا يتعدى دائرة التثقيف، لكن ألم تكن هذه الحركة النشطة متواجدة من أيام النهضة حتى يومنا هذا؟ فما المعوق الجوهري لكل هذه الجهود؟ ما الذي يجعلها لا تقدمنا خطوة؟ ألم يكن لدينا جيش من المترجمين والمتخصصين، ألم نسارع في ترجمة بعض الكتب العلمية في ذلك الوقت ولا زالت القافلة تسير؟ لا يمكن لهذه الصياغات الشعرية أن تتخذ صفة الإقناع ما لم تأخذ بنظر الاعتبار كل التحديات التي عانت منها منطقتنا ولا تزال.
ثمّة بلاء مبرم في هذا البلد العجيب وهو فوضى الأولويات، ومؤكد ستأخذ هذه الفوضى حصتها وتنعكس على طرق تفكيرنا. فالمسلّمة التي لا يختلف عليها اثنان: إنه لا شيء يمكنه النجاح بلا مؤسسات راسخة. بالرجوع إلى قصة الرأسمالية مرّة أخرى، يورد أحد الكتاب رأيًا لأحد الخبراء الأمريكان مفاده: إن الرأسمالية ستحقق أرباحًا طائلة في غير بلدانها الأم، ذلك أن البلدان الرأسمالية استطاعت أن تنشأ مؤسسات ضخمة تحد من الجشع والتلاعب، بينما تغيب هذه المؤسسات في بلدان العالم الثالث.. البلدان جديدة العهد على الرأسمالية، وبالخصوص البلدان الطرفية، فستتحول فيها الرأسمالية إلى اقتصاد عصابات ولصوص مثلما يحدث في العراق بالضبط، فأنت لا تعرف تحت أي نمط اقتصادي يمشي هذا البلد العجيب: رأسمالي؟ اشتراكي؟ مختلط؟ هذا مثال بسيط يبين فيه وضع البلد المنفلت فيما اشتغلت فيه آليات السوق!
فبالتالي، التفكير ببناء الدولة يسبق كل أولوية، وتطوير المؤسسات يتفوق على كل مزاج؛ فالدولة انعكاس لنمط الإنتاج السائد، وبلد ريعي مثل العراق يحتاج، أولًا، وبعد بناء الدولة بالطبع، أن تتحول فيه ريوع النفط إلى رأس مال صناعي، مثلًا، وعند تلك اللحظة يمكننا أن نتبارز حول أي نوع من الاقتصاد ينفع. ما عدا ذلك، فربما ستبقى كتاباتنا حبرًا على ورق، مثلها مثل كتابات حقوق المرأة وحرية التفكير وغيرها.. فالبرغم من وجاهة هذه الحقائق إلّا أنها لا زالت مثار تندر وتهكم وسخرية واتهام في بيئة مقاومة وشرسة لكل جديد، بيئة تنتصر لشيخ العشيرة وتتجاهل رجل العلم، فيضطر للهجرة إلى بلدان توفر له المناخ الملائم للبناء والإبداع.
البلدان جديدة العهد على الرأسمالية، وبالخصوص البلدان الطرفية، فستتحول فيها الرأسمالية إلى اقتصاد عصابات ولصوص مثلما يحدث في العراق بالضبط
يبدو أن التغيير السياسي هو الخطوة الأولى لهذه الرحلة الطويلة والمجهدة، ويبدو كذلك أننا عازمون على الوفاء لأمنياتنا النظرية فقط التي يمتزج فيها الصوفي والشعري على حد سواء وتنتقم لا شعوريًا لأي حراك حقيقي يختبر تلك الأمنيات، فالغرق في عوالمنا الشعرية يتفوّق على كل أولوية حتى لو كنّا نكره الشعر شكليًا، لكننا ومن حيث الواقع، وطبقًا لطرق تفكيرنا، نندرج ضمن كوكبة فحول الشعراء!
اقرأ/ي أيضًا: