أثارت مطالب عودة التجنيد الإلزامي في العراق أو ما يسمى بـ"خدمة العلم"، الكثير من المهتمين بالشأن العام، وأدّت إلى انقسام الخبراء والأكاديميين بين مؤيد ومعارض، ففي عام 2003 وبعد الغزو الأمريكي وسقوط النظام السابق أصدر الحاكم المدني في العراق بول بريمر قرارًا بحلّ الجيش العراقي والذي كان تعداده 365.000 جندي، إذ اعتبرها البعض خسارة فادحة للعراق لكونه قد خسر واحدًا من أقوى الجيوش العربية والعالمية آنذاك إضافة إلى أنه جيش مر بتجربة تراكمية على مر تاريخ الدولة العراقية، وقد اعتبرها فريق آخر بداية للتخلص من عبودية العسكرة والسخرة التي كانت تُمارس من قبل النظام السابق بخصوص التجنيد الإلزامي والذي قد أوجد جيش عدده كبير، إلا أن عقيدته العسكرية ضعيفة للغاية ومرتبطة بالنظام لا الدولة.
تاريخ التجنيد الإلزامي في العراق... تاريخ من الرفض والهروب
إن ما يعرف بالتجنيد الإلزامي داخل العراق يعود إلى الحكم العثماني في عهد عمر باشا، والذي جاء إلى بغداد خصيصًا لفرض التجنيد الإجباري على السكان أو ما كان يعرف باسم "عسكر نظام"، على الرغم من ترحيب بغداد وباستمالة أعيانها للموافقة على قرار التجنيد، إلا أن الرفض الذي تمسكت به العشائر العراقية بدءًا من محافظة ديالى وصولًا إلى الفرات الأوسط كان على شاكلة عصيان صلب للقرار، حيث انتقل ذلك العصيان إلى الفرات الأوسط واستطاعت العشائر هناك أن تضرب القوات الحكومية ضربات شديدة، ثم عمَّ العصيان مناطق أخرى من العراق، وحدثت الكثير من المعارك الدامية بين قوات الوالي العثماني وبين العشائر العراقية في منطقة الفرات الأوسط ومنها الحلة وكربلاء والنجف والديوانية، راح ضحيتها المئات من القتلى، وكان ذلك رد الفعل الأول لرفض التجنيد الإلزامي من قبل المجتمع العشائري، الذي كان يُعتبر البنية الأهم داخل المجتمع العراقي آنذاك، فقد رفض تجنيد أفراده لخدمة السياسة.
يعود "التجنيد الإلزامي" في العراق إلى الحكم العثماني في عهد عمر باشا حيث جاء إلى بغداد خصيصًا لفرض التجنيد الإجباري على السكان
لاحقًا، ثبت قانون الخدمة الإلزامية في عهد مدحت باشا، إذ قام بتعزيز عسكرة المجتمع من خلال إنشاء معامل ومصانع لإنجاح عملية التجنيد الإلزامي، استمرت الخدمة الإلزامية في الجيش العثماني حتى نشوب الحرب العالمية الأولى ودخول العراق تحت الانتداب البريطاني، وكانت أولى انتكاسات الجيش الإلزامي العثماني هي هزيمته في مناطق متفرقة إبان الحرب العالمية الأولى وسرعة خسارة السيطرة العثمانية داخل العراق.
مع انهيار الدولة العثمانية، ولدت الدولة العراقية الحديثة مع النظام الملكي عام 1921، وكانت هنالك عدة محاولات من قبل الملك فيصل لإدخال التجنيد الإجباري للجيش العراقي، تزامن ذلك مع رفض مستمر من العشائر العراقية، الرفض الذي اتخذ حينها ثلاث اتجاهات، الأول هو وجود عشائر تعارض التجنيد لكن لم تعلن عن معارضتها، إلا من خلال المطالبة باستثناء تجنيد أبنائها مثل "شمر، عزة"، الثاني طالب أن تكون نسبة الرجال المشمولين بنسبة عدد الأفدنة المزروعة، أما الاتجاه الثالث فقد تمثل في تلك العشائر التي حملت السلاح ووقفت في وجه التجنيد الإلزامي، وكان هذا هو الوضع السائد حتى إدخال الخدمة الإجبارية للجيش العراقي عام 1935 حيز التنفيذ، أو ما عرفت بـ"خدمة العلم"، بعدها بعام واحد، قام العسكر بانقلاب بقيادة بكر صدقي، كانت هذه الخطوة الأولى من نوعها إذ تجاوز العسكر آنذاك الإطار الدستوري والقضائي، مورس أسلوب الاغتيالات السياسية بعدها، والملاحظ أنه منذ اقرار التجنيد الالزامي لم تتوقف طموحات العسكر السياسية، وتطلعاتهم إلى دور فاعل في الحكم، لم تلبث الحكومة حتى حدث الانقلاب الثاني بقيادة رشيد عالي الكيلاني، والعقداء الأربعة 1941، تبعه الانقلاب الذي ساهم بتغيير مسار الدولة العراقية الحديثة عام 1958 بقيادة العميد عبد الكريم قاسم، لتستمر الانقلابات العسكرية والمؤامرات بين العسكر طوال السنوات اللاحقة، إذ تبعتها عمليات الإعدامات والتصفيات من قبل الجيش ضد الجيش، إضافة إلى استمرارية البدء من مرحلة الصفر بعد كل انقلاب، ليتبع انقلاب 1958 انقلابين كانا في 1963 و1968.
اقرأ/ي أيضًا: بعد 13 عامًا..التجنيد الإجباري مجددًا في العراق
إن توالي حدوث الانقلابات العسكرية قد ساهم بوصول حزب سياسي إيديولوجي، وخلافًا للانقلابات السابقة، فقد تمخض عنه "تسييس" كامل للمؤسسة العسكرية، وخلق مصطلح "الجيش العقائدي" ببادرة خطيرة غيّرت كل المفاهيم والأسس المعمول بها في الدول الحديثة بتكوين جيوشها الوطنية، خاصة في منطقتنا الشرق أوسطية، إذ استمر حزب البعث في حكم العراق كحزب واحد شمولي لغاية عام 2003.
إن ظاهرة التجنيد الالزامي منذ العهد الملكي ساهمت وبشكل كبير في عسكرة المجتمع والذي تمخض عنه وجود شخصيات انقلابية على رأس السلطة، إضافة إلى منح التجنيد الإلزامي تغذية من هم في السلطة بفكرة الانخراط المستمر في الحروب، وعدم التردد في دخولها تحت مبدأ وجود عدد كافٍ من الجنود، فيما تشير استمرارية التجنيد الإلزامي داخل العراق إلى أن الجيش العراقي لم يمنع من خوض معارك استنزافية، ومن المرور بعدة انتكاسات، إذ دخل العراق عام 1980 حربًا استمرت لثمان سنوات مع إيران والتي تعتبر واحدة من أطول الحروب التقليدية في القرن المنصرم، إضافة إلى الانتكاسات التي مر بها الجيش العراقي قبل ذلك، وبالمجمل نستطيع الوصول لعدة دلالات تثبت أن المجتمع العراقي قد كان رافضًا لعسكرته، وإن تم ذلك فعن طريق الإرغام والقسر وليس باختياره.
هل خدمت "خدمة العلم" المجتمع؟
يتعاطى البعض مع مسألة التجنيد الإلزامي كعملية إصلاحية وكأنها الطريقة الوحيدة الممكنة لإعادة صهر الشباب من جيل التسعينات مع المجتمع. إن وجود سلوكيات خاطئة لدى فئة من الشباب لا تستدعي تشريع قوانين قد تتنافى مع القيم الديمقراطية التي بدأت بالنمو في المجتمع منذ 15 عامًا، وإن تنمية الشعور بالمواطنة، وتعزيز احترام الفرد وتمسكه ببلاده لا يمكن أن يأتي عن طريق الإكراه، حيث أن التنشئة الحقيقية التي يمكن للفرد أن يحصل عليها تبدأ منذ صغره لا بعد الثامنة عشر، ولن تكون هناك إمكانية لتصحيح أخطاء الشباب ومخلّفات الحروب المتتالية التي عاشوها بزجهم في الجيش، بقدر ما ستصبح فرصة كبيرة لغزو المؤسسة العسكرية برصانتها من قبل سلوكيات وثقافات تتنافى كليًا معها.
تكرار الأخطاء
إن تفعيل قانون مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 65 أو ما يسمى بـ"قانون الخدمة العسكرية"، لسنة 1969، يعيدنا إلى ذات الأخطاء التي ارتكبت قبل العام 2003 وقادت إلى الكوارث اللاحقة بعدها، إذ سيتضمن القانون زيادة عدد منتسبي السلك العسكري والذي من المحتمل أن يبلغ عددهم حوالي 10 مليون شاب، والذي بدوره سيضمن ولاء هؤلاء الشباب للمؤسسة العسكرية التي ستنمو أكثر في ظل تركيز تام على نمو الجهاز العسكري وتسليحه، مما سيعرض النظام الديمقراطي برمته للخطر لاحتمالية تعرضه لانقلاب عسكري في حال لم ترضخ الحكومة الموجودة أو السلطة التشريعية للإرادة العسكرية، إذ لم تعد المؤسسة العسكرية قائدة للتحرر كما يذكر التاريخ، بالأخص بعد امتلاك العراق دستورًا دائمًا عام 2005 واحتوائه على مساحة من الحريات والحقوق المدنية والسياسية التي تحميه من التعرض لنظام ديكتاتوري جديد، بما يحرر البلد من الفكرة التقليدية عن دور العسكر في حماية الشعب عبر التدخل في العمل السياسي، الفكرة التي اثبتت فشلها في العراق.
تنمية الشعور بالمواطنة وتعزيز احترام الفرد وتمسكه ببلاده لا يمكن أن يأتي عن طريق "الإكراه" كما أن التنشئة الحقيقية تبدأ من الطفولة لا من الشباب
إن عسكرة المجتمع هي بمثابة قتل للديمقراطية والعمل على صناعة الاستبداد، فالعسكر وعلى أهميتهم يشكلون تهديدًا مستمرًا للحرية، نابليون بونابرت وفرانكو وأمثلة أخرى عديدة من التاريخ تؤكد وصول شخصيات مستبدة للحكم عن طريق استغلالهم لفكرة العسكر والتجنيد الإلزامي، حيث يصبح الذين ينتمون للجيش يمتلكون ولاءًا مطلقًا لهرم المؤسسة العسكرية، إضافة إلى زيادة الرغبة بأن يكون المجتمع منضبطًا عسكريًا من شأنه أن يولد الرغبة من جديد للعودة إلى الحكم الشمولي، ولا ننسى التهديد الذي قد تمارسه عملية عسكرة المجتمع للتيارات المدنية والتي اخذت تتنفس الصعداء في انتخابات 2018 و بداية تقبل المجتمع لها تدريجيًا.
التجنيد الإلزامي وخطر الفساد
يمكن أن يكون قرار التجنيد الإلزامي محفزًا للاستغلال عبر الاستثناءات، إذ تنص المادة (6) فقرة 3 والمادة (7) فقرة 1 والمادة (8) فقرة 1 على وجوب حصول استثناءات لعدة أسباب صحية أو نقصًا في اللياقة أو أسباب أخرى تحت بند "مقتضيات المصلحة العامة"، كما أن المادة (16) من القانون نفسه تمنح وزير الدفاع الحق بإصدار استثناءات خاصة، ولا يمكن أن يتم في الوقت الحاضر توفير ضمانات حقيقية حول سلامة منح هذه الاستثناءات وصدورها بشفافية تامة، كما أن التجنيد من شأنه أن يُستبدل ببدل مالي، مما يزيد الهوة داخل المجتمع على زيادته الآن، حيث يجعل من يمتلك مالًا بعيد عن تلك الخدمة في حين من يحتاج للعمل اليومي وإعالة عائلته ستشمله الخدمة الإلزامية. إنها وصفة فعالة لزيادة التفاوت الطبقي بين المجتمع الواحد.
خدمة العلم وروح الدستور العراقي
إن الدستور العراقي الدائم 2005 هو الوثيقة الأعلى التي تسمو على باقي الوثائق والاتفاقيات داخل العراق، ومع أن المادة 9 ثانيًا قد نصت على وجوب تنظيم خدمة العلم بقانون إلا أن ذلك لا يكفي لاعتباره قانونيًا، فمع مراجعة الدستور العراقي والحريات التي منحت بموجبه ومقارنتها مع المسودة الخاصة بخدمة العلم سنجد تناقضات كبيرة بين الدستور والمسودة المفترضة، تنص المادة 13 من مسودة خدمة العلم الصادرة عن وزارة الدفاع والتي قدمت كمقترح للبرلمان العراقي أنه يحق للقائد العام للقوات المسلحة ووزير الدفاع استدعاء الجنود الاحتياط وزجهم في الحروب بشكل مباشر، أما المادة 14 منه فقد تناولت قضية الاستثناءات التي تكون من صلاحيات القائد العام للقوات المسلحة بطلب من وزير الدفاع منح استثناء من الخدمة تحت بند "مقتضيات المصلحة العامة"، والتي يمكن أن تستغل بطريقة غير شفافة، كما أن الجهة الأخرى التي يمكنها منح الاستثناءات والتي أطلق عليها القانون اسم "اللجنة الطبية العسكرية"، وهي يمكنها تقييم من لا يصلح لأداء الخدمة لكونه لا يتمتع بوضع صحي سليم، لا يمكن أيضًا توفير ضمانات حول شفافية عملها وسلامة اختيار أعضائها، ثم ما الذي سيمنع منح استثناءات طبية دون وجه حق؟ وهل ستسلم الخدمة الإلزامية من شبهات الفساد التي تطرّق لها رئيس الوزراء في البرنامج الحكومي بوصفها واحدة من أولوياته؟.
اقرأ/ي أيضًا: المالكي وانهيار الجيش العراقي
إن تقاطع نصوص القانون مع الدستور لم تقف عند هذا الحد، ثمة مواد في مسودة الخدمة تناقض الدستور العراقي، أولها المادة (23) التي تقتضي بتفضيل الشخص الذي أدى الخدمة الإلزامية على الآخر الذي لم يقوم بتأديتها، هذا يعارض كليًا المادة (22) التي جاءت واضحة في الدستور العراقي، والتي تقتضي بتكافؤ الفرص لجميع العراقيين وبكونها حق مكفول دستوريًا. كيف يمكن إذًا منع الناس من العمل لكونهم لم يؤدوا الخدمة لأي سببٍ كان؟.
كما أن المادة (24) من مسودة قانون خدمة العلم، والتي تبيح للدولة فصل المواطنين من عملهم في حال لم يكونوا قد أدوا خدمة العلم لأي سبب كان والتي تتعارض مع المادة (22) من الدستور العرقي والتي تمنح حق العمل لكل العراقيين بما يضمن لهم حياةً كريمةً، اما المادة (25) من القانون المذكور فتنص على منع السفر لأي شخص يؤدي أو لم يؤدي الخدمة الإلزامية مما ينافى المادة (44) من الدستور العراقي التي تمنح حق للعراقي بحرية التنقل والسفر والسكن داخل العراق وخارجه.
الوضع ذاته يشمل المادة (27) من القانون نفسه والتي تمنع المواطنين الرجال من الانضمام إلى النقابات والجمعيات في حال تأديتهم للخدمة العسكرية مما يتعارض مع المادة الأهم في الديمقراطية العراقية (39) التي كفلت بأن يكون الانضمام للجمعيات والنقابات حرية فردية ليس من حق الدولة أن تمنع الناس منها. إن هذه المخالفات لنصوص الدستور وروحه قد تخلق ولاءًا مطلقًا للسلك العسكري، وتخلق أرضية قابلة لعودة الأنظمة الشمولية التي تتحكم بالأفراد تحت سلطة "الانضباط"، بما يهدد روح الديمقراطية ويعرضها للخطر بسبب مشروع قانون يتنافى مع دستور العراق.
الجيش ودعاوى تطييفه
إن المبرر المستخدم لإثارة خدمة العلم العسكرية هو حاجة العراق لجيش قوي يجتاز المسميات الطائفية، كذلك حاجة العراق لعدد كبير من الجنود في حالات الطوارئ لتلافي تكرار "فتوى الجهاد الكفائي" والتي ربما لا تنجح كنجاحها في السابق، هذا أمر جيد، لكن لا يمكننا الأخذ به كسبب رئيس في تجنيد المجتمع. إن الجيش العراقي الذي لوحظ فيه أن هناك تباين في نسبة الجيش التطوعي بين الشيعة الذين هم أكثر رغبة للانخراط وبين باقي الفئات الموجودة، الغالبية تلك من المحافظات الجنوبية والوسطى أو بمعنى آخر أنهم "الرجال الشيعة"، فأن فكرة التجنيد الإلزامي تهدف كما يدعي حامليها أن يتم خرط باقي فئات المجتمع العراقي ومنها الأقليات في صنوف الجيش، ولزيادة تنوعه.
اقتصار الخدمة الإلزامية على الرجال من شأنه أن يخلق فجوة كبيرة في الفرص التي قد تتوفر بالتزامن مع ذهابهم لأدائها وبين بقاء النساء لإدارة المؤسسات المدنية!
إشكالية انتماء الغالبية الشيعية للجيش العراقي أمر طبيعي في ظل الظروف المعيشية التي تسود في المحافظات الجنوبية، فالثقل السكاني للشيعة يقدر بنسبة تصل إلى 60% من سكان العراق، إذ يمكن اعتبار أن احتواء الجيش العراقي للشيعة لا يعتبر بمثابة سيطرة شيعية داخلية على مؤسسة الجيش بقدر ما هو توازن بين النسبة السكانية لهم وبين المستوى المعيشي الذي يدفع الرجال للتطوع في الجيش، قد يعاني الكثير منهم من البطالة والفقر وهو الأمر الذي لم يتغير كثيرًا عن النظام السابق حيث كان أكثر أفراد الجيش العراقي من الشيعة، ومع أن الجيش قد كان إلزاميًا، إلا أن الفئة الغالبة كانت شيعية كذلك، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المكون السني بالأخص في المناطق الغربية قد صدرت فتاوى من هيئة علماء المسلمين بعد ٢٠٠٣ تُحرم الانتماء للجيش العراقي الجديد بدافع ديني، ما أدى إلى قلة الانتساب من المكون السني خشيةً من التعرض للأذى، هم وعوائلهم داخل مناطقهم، لكنهم عادوا تدريجيًا إلى الجيش والتطوّع فيه باستمرار.
وهنا يجب أن لا يتم استخدام الصراعات المذهبية كمبرر لعودة التجنيد الإلزامي، ومحاولة إنكار أن الفرد العراقي الشيعي قد يخدم في السلك العسكري طوعيًا، كما في الوقت الحاضر بشكل يتفوق فيه على باقي الفئات، ولا يمكن الجزم بأن الجيش العراقي يتكون من مذهب معين فحسب.
الخدمة العسكرية.. هل تشمل المرأة؟
في سابقة فريدة أعلنت المملكة المغربية عن إقرار قانون موازن لقانون خدمة العلم لدينا بعد إلغائه لمدة 11عامًا، إذ أقر التجنيد الإلزامي في المغرب لكل شاب يبلغ 18 من العمر، والسابقة إن خدمة التجنيد قد شملت النساء كذلك، انطلاقًا من مبدأ المساواة التي تتخذها الحركات النسوية ذريعة لها في المطالبة بالحقوق، وهنا نسأل: هل سيشمل التجنيد في العراق المرأة كذلك؟.
اقرأ/ي أيضًا: عزمي بشارة: "الجيش والسياسة" مدخلًا لفهم الدولة الوطنية العربية
ماذا إن تم استثنائها، ألا يمكن اعتبار ذلك تقليلًا من شأنها بالإقصاء من تنمية الشعور بالمواطنة؟ أو التقليل من قيمة الرجال لزجهم بمفردهم في الجبهات بعيدًا عن حياتهم وأسرهم، ولا ننسى كذلك الأعراف الاجتماعية التي قد تمنع النساء من أداء الواجب اتجاه الوطن، ثمّ ماذا عن أعداد النساء العاطلات اللاتي بلغ عددهن 22% مقابل نسبة 8، 5% من الرجال، أي أن نسبة النساء العاطلات تفوق نسبة الرجال، ألا يعتقد أن تخليص الشباب من البطالة بتثبيت الخدمة الإلزامية يجب أن يشمل النساء كذلك؟.
علاوة على ذلك، أن اقتصار الخدمة الإلزامية على الرجال من شأنه أن يخلق فجوة كبيرة في الفرص التي قد تتوفر بالتزامن مع ذهاب الرجال لأدائها وبين بقاء النساء لإدارة المؤسسات المدنية.
التنوع الأثني في الجيش.. إلزامي أم تطوعي؟
في الجيش العراقي السابق، أي قبل عام 2003 كان التجنيد إلزامًا على كل فرد عراقي، إلا أن الكرد والأقليات كانوا في الغالب يخدمون في الأفواج الخفيفة، أو ما تسمى "الفرسان"، والتي يقودها شيخ عشيرة منهم ويقاتلون ضد المخربين وليس ضد الأعداء، أما البيشمركة، والتي تأسست رسميًا عام 2003 فأنها أقرب إلى أن تكون جيشًا للإقليم، وتحركاته مستقلة عن المركز، السؤال الذي يُثار في حال تطبيق قانون الخدمة الإلزامية، هل سيشمل الأقليات؟ أم سيبقي باب التطوع مفتوحًا أمامهم كما هو الحال مع بعض الدول الإقليمية، كما أن مسألة الولاء المشترك بين الكرد والبيشمركة وبين الجيش العراقي، أين سيخدم الفرد الكردي؟ نحن نرى أن خدمة العلم سيصوّت عليها النواب الكرد كذلك، هل سينضمون للجيش العراقي؟ ماذا عن الصراعات الحزبية بين أربيل والسليمانية، كيف سيتم توحيدها إزاء مسألة التجنيد؟ وهل من الممكن تجاهل الرغبات الانفصالية لدى البعض؟ ماذا لو اخترق الجيش العراقي من قبل قوى راغبة بالانفصال، هل ستكون تبعات هذه المواضيع مأخوذة بالحسبان، أي هل سيوجد مقياس للأثر التشريعي لهذا القانون؟ وهل ستوجد آليات تقوم بدمج المقاتلين الكرد في صفوف الجيش العراقي الموحد؟.
سوق العمل لا يحتاج لجنود...بل لكفاءات!
إحدى أهم المشكلات التي يحاول الباحثين ورجال الأعمال لفت النظر إليها هي عدم موائمة خريجي الجامعات "العرض" ومتطلبات السوق "الطلب"، أي أن ثمة أعداد كبيرة جدًا من الشباب المتعلمين الذين لا يمكنهم المساهمة في القطاع الخاص لعدم تخصصهم بمجالات يحتاجها السوق، هذا يمكنه أن يجرنا إلى حيث الخدمة الإلزامية، حيث سيقوم الشباب بالانخراط في التعليم الجامعي، وإن كانوا يعملون ضمن القطاع الخاص لهدف تقليل مدة الخدمة الإلزامية لكون طلبة الجامعات يخدمون بواقع مدة أقل من أولئك الذين لم يلتحقوا بالجامعة.
إن هذا من شأنه أن يحدث آثاراً كارثية متوسطة وبعيدة المدى، وسيختار الشباب إكمال تعليمهم الجامعي رغم عدم رغبتهم بذلك، وسيكون لدى العراق المزيد والمزيد من المتعلمين غير الكفوئين. وفي الحقيقة نحن نحتاج إلى ترشيق أعداد طلبة الجامعات وبقاء بعضهم فقط، وليس زيادة العدد بغية الهروب من الجيش للجامعة، إضافة إلى ذلك، ما هي الآليات التي يمكن من خلالها ضمان حصول الخريجين الذين أدّوا الخدمة الإلزامية على وظائف؟ ما الذي سيمنع استخدام المتدربين في الجيش التدريب الذي تلقوه في مشاريع غير قانونية إذا أجبرتهم الظروف على ذلك؟.
الجيش التطوعي أثبت تقدماً... أما الإلزامي فلا!
إن من يختار أن يمتهن العسكرية يختلف كليًا عمن أرغم على الانخراط فيها. أثبت الجيش العراقي خلال السنوات الماضية رغم أنه قد ابتدأ من الصفر بعد قرار حل الجيش العراقي السابق، فقد كان لوجود عدوان "داعش" أثرًا إيجابيًا استفز القدرات القيادية والدفاعية لدى الجيش العراقي، فبحسب تصنيف موقع Global Fair Power السنوي قد أحرز الجيش العراقي تقدماً ملحوظًا خلال بضع سنوات فحسب كما يظهر في الجدول أدناه:
ـ 2013: (58) عالميًا (8) عربيًا
ـ 2014: (68) عالميًا (8) عربيًا
ـ 2015: (112) عالميًا (16) عربيًا
ـ 2016: (82) عالميًا (16) عربيًا
ـ 2017: (59) عالميًا (7) عربيًا
ـ 2018: (47) عالميًا (4) عربيًا
ونلاحظ هنا أن الجيش والذي يتكون من أفراد متطوعين تقدم بشكل كبير خلال معاركه الكبيرة ضد تنظيم داعش الإرهابي بفارق 65 نقطة، وعوزًا عن ذلك، أن مساندة قوات الحشد الشعبي والحشد العشائري والبيشمركة والذين يتكونوا كذلك من أفراد متطوعين قد ساهموا جميعهم في إحراز النصر على "داعش". إن هذا يدل على أن زيادة مخصصات ورواتب العسكريين يمكنه أن يجعل عدد المتطوعين في ازدياد، أي أولئك الذين يتخذون العسكرية كمهنةٍ لهم طوال حياتهم، وليست فترة انقضاء فحسب.
إن هذا من شأنه أن يمكن الجيش العراقي أكثر وأن يحوي مزيدًا من الشباب مع إمكانية التفضيل بين المتطوعين، أي المرونة في اختيار الجندي الأكثر كفاءة، وليس أولئك الذين تفرضهم الخدمة الإلزامية. إن الجيش الحالي ومع الانتصار الذي أحرزه ضد تنظيم داعش الإرهابي يدل على حاجته لزيادة الكفاءة والتدريب العسكري لتوفير قوة احتياط مدربة على مستوى عال، كما يجب التنويه على ضرورة احتواء مقاتلي الحشد الشعبي وضمهم تحت لواء الجيش الرسمي، إذ يبلغ عدد المقاتلين 130 ألف فرد. إن تنظيم هذا العدد من الأفراد المدربين ضمن الجيش يمكنه وبكل سهولة زيادة عدد الجيش وكفاءته في آنٍ واحد، إذ أن الأفراد الذين ينتمون لفصائل الحشد هم جماعات مدربة وقد خاضوا الحرب على أرض الواقع، وكانت هنالك اعدادًا كافية منهم لمسك الأراضي بعد تحريرها من سيطرة داعش.
الحل بالكفاءة لا بالعدد
إن من أهم العبر المستقاة من احتلال تنظيم داعش للأراضي العراقية، والنكسات التي تعرض لها الجيش العراقي السابق والحالي تكمن في عدة نقاط، منها ضعف الجهد الاستخباراتي والمشاكل اللوجستية والفساد وتدني المستوى المهني لبعض القيادات العسكرية، الأمر الذي أشار له تقرير البرلمان حول كارثة احتلال الموصل، في الوقت الذي تتم فيه مطالبة البرلمان بسن قانون التجنيد الإلزامي فأن غالبية هذه المشاكل ما تزال قائمة وتهدد حتى بتقويض الأهداف التي حددتها الولايات المتحدة والتحالف الدولي لتدريب الجيش العراقي، إذ تنحصر هذه الأهداف في بناء وحدات قادرة على محاربة داعش في الموصل، بدلًا من إعادة بناء الجيش العراقي بأكمله إزاء انعدام الكفاءة والفساد المتفشي في مفاصل الدولة العراقية عمومًا.
خاتمة
إن الحلول المؤقتة قد أثبت فشلها، إذ أنها ستؤدي في النهاية إلى استنزاف ميزانية الدولة وهدر وقت طويل بالإمكان استغلاله في تدريب وتطوير جيل جديد من المتطوعين العسكريين. إن تفعيل الخدمة الإلزامية قد يجعل المؤسسة العسكرية والتي هي بحاجة للإصلاح تمارس سياسة المماطلة في إدخال التطوير المطلوب، كما أن تجربة الحرب ضد داعش أثبتت أن المقاتل العراقي بحاجة إلى أسلحة ومعدات متطورة خلافًا للفكرة الكلاسيكية التي تقتضي كفاءة الجيش بزيادة عددهِ. وأي قرار يخص السلك العسكري هو قرار لا رجعة فيه، حيث يجب الأخذ بنظر الاعتبار الميزانية المخصصة لتطبيقه على المستوى "القصير، المتوسط، والبعيد كذلك"، ولا يمكننا التفكير في إصلاح المجتمع من خلال عسكرته.
الشعور بالمواطنة يأتي من خلال "الخدمة المدنية" حين توجد وظائف تستقطب الشباب وفرص تطوّر واقع المدارس والنظام التعليمي فضلًا عن تقديم الاستقرار والخدمات والأمن الأمر الذي يجعل المواطن يشعر بالمسؤولية أمام بلاده
إن تنمية الشعور بالمواطنة يأتي من خلال الخدمة المدنية، أي أن تتواجد وظائف تحتوي الشباب العاطلين وتقوم باستقطابهم، إضافة إلى أنه يجب كذلك منح فرص أكثر لتطوير واقع رياض الأطفال والمدراس، فضلًا عن العمل على منح خدمات ذات جودة عالية للمواطن تعزز تمسكه ببلاده وشعوره بالمسؤولية إزاءها، وتقديم فكرة الخدمة "المدنية" بدلًا عن الخدمة العكسرية، تعني أن هنالك أصوات داخل السلطة التشريعية نفسها ترفض فكرة التجنيد العسكري وهذا يستدعي التفاؤل والمزيد من العمل لتعزيز قيم الديمقراطية وإنقاذها من "أخطار الاستبداد".
اقرأ/ي أيضًا:
الجيش والسياسة – إشكاليات نظرية ونماذج عربية.. كتاب جديد لعزمي بشارة