لم يَعرف العراق مسارًا ثوريًا كالذي يشهده منذ مطلع تشرين الأول/اكتوبر، خاصةً وأن "انتفاضة الغضب" كما أطلقنا عليها، استمرت رغم القمع الوحشي واستخدام الرصاص الحي ودخول القناص على خط القمع في أجلى مظاهر عدم الانضباط الأمني والإفراط في العنف الذي يُرتجى منه إنهاء الاحتجاجات.
استقالة عبد المهدي لم تكن دافعًا لانسحاب المتظاهرين، وذلك من "مزايا" المنتفضين الجُدد، الذين لم تُقنعهم إزاحة "رئيس وزراء" جاء عبر كتل سياسية هي المسُتهدف الأول في الانتفاضة
كما أن المسار جديدٌ، فإن طريقة استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي هي الأخرى غير مسبوقة في التاريخ العراقي، المليء بالانقلابات العسكرية أو التصادمات الداخلية بين الحكومة والمعارضين (كذا في العهد الملكي)، وجُل التغييرات كانت بفعل طرف من داخل النظام يؤدي إلى حدوث تغيير ما، جزئي أو شامل.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة الغضب: حين يُفقد الوطن والأمل والعمل!
لذا فأن الجديد اليوم هو دخول الفاعل الشعبي كطرف رئيس في تغييرٍ لم يُقنع المتظاهرين نعم، لكنه ثبّت حالةً جديدة قد تكون "تأسيسية" للسنوات القادمة، رغم التأثيرات التي ساعدت على هذا التغيير، مثل المرجعية الدينية، وضغط بعض الكتل السياسية في مجلس النواب، خصوصًا وأن دعم حكومة عبد المهدي كان كبيرًا من الدول الإقليمية والعالمية الفاعلة في العراق.
رسم المحتجون خارطة طريق بفطرتهم، وقنّنها الناشطون والإعلاميون المساندون للانتفاضة، كان أجلاها هو شعار "لا تفاوض مع حكومة القناصين".. "لا تفاوض إلا بإقالة الحكومة"، وذلك ردًا على القمع وارتقاء عدد كبير من الشهداء، فرضت دماؤهم على زملائهم المتظاهرين عدم التنازل والقبول بالإصلاحات الحكومية المدعومة بالوساطة الأممية.
لكن استقالة عبد المهدي لم تكن دافعًا لانسحاب المتظاهرين، وذلك من "مزايا" المنتفضين الجُدد، الذين لم تُقنعهم إزاحة "رئيس وزراء" جاء عبر كتل سياسية هي المسُتهدف الأول في الانتفاضة، خاصةً مع وجود قناعة شعبية بأن عبد المهدي مكبّلٌ بالأحزاب التي جاءت به للحكم، أكثر من سابقيه بكثير.
ليس ذلك فحسب، بل أبكمت الدماء التي سالت في محافظة ذي قار قبل يوم من الاستقالة، أفواه المتظاهرين في بغداد والمحافظات حزناً، إلى درجة أن العاصمة لم تشهد احتفالًا كبيرًا لا بالاستقالة، ولا بفوز المنتخب الوطني على الإمارات وتأهله إلى نصف نهائي بطولة الخليج.
حالة التسييس الحالية توجب تحول "المتظاهر" إلى "ناشط" يُشارك فعليًا في عملية الإصلاح الديمقراطي
إن عبارة "لا تفاوض إلا بإقالة الحكومة" التي أُطلقت بمشاعر الغضب من الدماء، ستُجبر المتظاهرين على التفكير بالتفاوض تدريجيًا بعد "هزة الاستقالة" التي من المفترض أن تنقلهم من حالة الشعور إلى حالة التفكير. وبالتالي، ستفرض الحالة الجديدة المضي بتفاصيل خارطة الطريق، تبدأ بالنقاش حول قانون الانتخابات، سواء المطروح في مجلس النواب، أو ما قد يطرحه المحتجون أنفسهم، وكذا في مفوضية الانتخابات الجديدة وآلية اختيارها، وقانون الأحزاب، الأمر الأهم للنتائج المستقبلية للاحتجاجات.
اقرأ/ي أيضًا: الثابت والمتحوّل في احتجاجاتنا: دروس للمشرق العربي
إن حالة التسييس التي دخل فيها المجتمع بأكمله تفرض عليه التنقل في الأدوار تبعًا لتطورات الأحداث السياسية بعد استقالة عبد المهدي. وكما أن الحدث ـ الانتفاضة ـ جديد، فبجدته لا بد من انتقال الشباب من التظاهر والعمل الميداني، إلى الفعل السياسي المُباشر.
أدخلت الاستقالة العملية السياسية في مسلكٍ آخر. سيُفتح النقاش الآن حول رئيس الوزراء القادم، وملف الكتلة الكبرى، وهل سيكون الرئيس مؤقتاً أم سيكمل الفترة كاملةً، و قانون الانتخابات المُناسب، وإن كان المتظاهرون راضين عن هذا الخط فسيتوجب عليهم طرح وجهة نظرهم في شكل القانون الذي يساعدهم على الدخول إلى مجلس النواب أفرادًا أو أفكارًا.
وبذلك يتوجب دراسة الأحداث بروية وحذر تناسبًا مع الحيِل التي تستخدمها الكتل السياسية لتسويف الإصلاحات المطلوبة، وبذلك يحتاج المتظاهرون إلى السياسة أكثر من العمل اللوجستي والتركيز على التصعيد وإدامة الزخم وغيره. يحتاج المتظاهرون إلى الأساليب الابتدائية في فن التفاوض إذا ما قرروا التفاوض مع الكتل السياسية حول القوانين المزمع تغييرها أو التصويت عليها.
إذًا، هي مجموعة من المهام الجديدة الواجب عملها من قبل المتظاهرين الذين كتبوا تاريخًا جديدًا للعراق، ومن المؤمل أن يكملوه إلى النهاية، فحالة التسييس الحالية توجب تحول "المتظاهر" إلى "ناشط" يُشارك فعليًا في عملية الإصلاح الديمقراطي، وإبراز الناشطين إلى الواجهة ضرورة حتمية إن كان الخيار المُراد هو النظام الديمقراطي وليس الانقلابات العسكرية والتدخل الخارجي.
وما يجعل المهام أكثر ثقلًا وإلحاحًا هو دور الدول الإقليمية والعالمية التي ستتخذ من حالة الفراغ الحاصلة ذريعة للتدخل من أجل الحصول على المزيد من المكاسب وفرض الإرادات وتصفية الحسابات فضلًا عن اللعب على الأوراق الاقتصادية والاستثمارات بوجود العجز والديون التي تتراكم على العراق.
التنظيمات المنبثقة من الحراك الشعبي وحدها من يقطع الطريق على "راكبي الأمواج" والأحزاب التي تمتلك التنظيم الكافي لاستثمار الانتفاضة الشعبية لصالحها
إن استقالة رئيس الوزراء ستَسحب معها حالة عامة من الجدل والنقاش والخلافات حول "ما يجب أن يكون"، بين الرافضين لرئيس تُسميه الأحزاب، وبين المنشغلين بالقادم من زاوية أشمل، وبين من ينتظر زوال الكتل جميعها. وتلك الحالة طبيعية بعد أي نجاح جزئي لأي انتفاضة أو ثورة في العالم، لكن المهم هو خروج قادة ومثقفين وناشطين وسياسيين إلى سطح الأحداث من رحم هذا الجيل الذي قَلب الأمور رأسًا على عقب وخلط أوراق الطبقة السياسية وكذلك الدول الخارجية، مع التأكيد على حتمية أن يكون القادة والمثقفون والناشطون الجُدد مختلفين من الناحية القيمية والفكرية عن سابقيهم.
اقرأ/ي أيضًا: معركة "الوجود المريح".. النفوذ الأمريكي والإيراني
لقد كانت المرحلة السابقة ـ برأينا ـ هي مرحلة الشعارات، والثبات، والصمود في ساحات الاحتجاج، والتأسي بتضحيات الشهداء، لإدامة الزخم وتغذية العزيمة، لاستمرار الضغط على الطبقة السياسيّة، ولقطع الطريق على محاولات الحكومة جرّ المتظاهرين إلى مفاوضات لا نتيجة منها؛ أما المرحلة القادمة فهي مرحلة التفكير والتنظير وطرح الرؤى وخرائط الطريق نحو تحقيق الإصلاح الحقيقي، وهي مرحلة ستحمل دون شك فجوات واختلافات وانشقاقات داخل صفوف المتظاهرين، لكنها مرحلة طبيعية يجب ألا نخشاها، فهي الطريق نحو النضوج، وصناعة المجتمع الفعّال، بناشطين وفاعلين سياسيين ومثقفين جُدد، وربما حركات شبابية تقود البلاد مستقبلًا.
نعتقد أن النقاش والحوار والاختلافات والجدل هو الذي يخلق إمكانيات للتفكير وصناعة الحلول والإبداع في الخيارات والطروحات والحلول فيما يخص الشأن السياسي.
كما نفترض أن التنظيمات المنبثقة من الحراك الشعبي وحدها من يقطع الطريق على "راكبي الأمواج" والأحزاب التي تمتلك التنظيم الكافي لاستثمار الانتفاضة الشعبية لصالحها، فضلًا عن إفسادها لأي محاولات خارجية لاستغلال الفوضى لتحقيق أهداف خاصة أو فرض شروط معينة.
إن عزوف الشباب عن التصدي للقيادة خشية التسقيط، وخوف الناس من وجود قادة وممثلين عنهم، يجب أن يُكسر لاعتبارات عديدة، ليس أولها أن المُقابل منظمٌ، والمرحلة تتطلب، كما ليس آخرها كون هذا هو الوقت المناسب للتدريب على العمل السياسي، وعدم تسليم الأمور للأحزاب الكلاسيكية لكي تُقرر مصير الشباب بدلًا عنهم.
اقرأ/ي أيضًا:
استقالة عبد المهدي.. خطوة أولى نحو الإصلاح أم خطة بديلة للكتل السياسية؟