بين الحدود الجغرافية والعاطفية: تركيا وروسيا أنموذجًا
ترى كل من الجمهورية التركية، وروسيا الاتحادية، بأن لهما إرثٌ تاريخيٌ قديم، يستند على الهوية الدينية سواءً أكانت إسلامية بالنسبة لتركيا، أم المسيحية الأرثوذكسية بالنسبة لروسيا، وقد أسهمت هذه الهوية بالنسبة لهُما في تشكيل الإمبراطوريات القديمة الدولة العثمانية بالنسبة لتركيا، وروسيا القيصرية بالنسبة لروسيا، وما أن انهارت كلا الإمبراطوريتين عقب الحرب العالمية الأولى، حتى أُسست على أنقاضهما دول قومية جديدة جعلت من الهوية الدينية جامعة للشعائرِ، لا الأعراق من الناحية العاطفية، ورُسِمت حدودها من الناحية الجغرافية.
الصراع الهوياتي الذي يؤسس له هنا، وفي قارة آسيا وشرقها، يراد عبره تشكيل هوية وطنية جديدة تعتمد على أساس توظيف الشعار الديني ببعدهِ العاطفي
أخذت تركيا، وروسيا بالعودة إلى الشعار الديني كأساس للهوية الوطنية التي تعتمد على العواطف، مع البقاء في الحدود الجغرافية للدولة، إذ أشار في ذلك الرئيس التركي (رجيب طيب أردوغان) في الذكرى الثامنة والتسعون لوفاة الأب المؤسس للجمهورية التركية (مصطفى كمال اتاتورك) بالقول "إننا نتصدى للذين يحاولون تحديد تاريخ دولتنا وأمتنا بتسعين سنة، ويجب أن نتخذ كل أنواع التدابير بما فيها مراجعة الكتب المدرسية بدءًا من الابتدائية، فيما أكد أنه لا يمكننا أن نسجن في (780) ألف كلم مربع، فحدودنا الطبيعية شيء، وحدودنا العاطفية شيئًا آخر". في الواقع يريد أردوغان عبر هذا التصريح تشكيل هوية تركيا جديدة تقوم على دعامتين أساسيتين: الأولى الاحتفاظ بالإرث التاريخي للهوية الكمالية، والثانية العودة إلى الإرث العثماني المتمثل بالهوية العثمانية الإسلامية، إذ يحاول أردوغان دمج هذان الإرثان في الهوية التركية الجديدة التي يعمل على تشكيلها داخليًا وخارجيًا، ويطلق على هذا التشكيل بالعثمانية الجديدة.
اقرأ/ي أيضًا: الجماعات وخصومها: العلاج بالتخوين!
إن طرح هذه الهوية يعود للمفكر الاستراتيجي (أحمد داود أوغلو) الذي يرى أن الهوية الوطنية لا يمكن فصلها عن تاريخها، وأن العثمانية تشكل ميراثًا عظيمًا، وأن الدولة التركية ستبقى بحدودها الحالية، لكنها ستجتاز تلك الحدود من عبر إحياء صلاتها الإسلامية مع شعوب المنطقة، وتخطي الحدود عاطفيًا، والتوصل مع تلك الشعوب إلى قناعة تتمثل في أن تاريخها ومصالحها مشتركة مع تركيا، وأنها أي تركيا لن تكون بمنأى عن همومها، وستؤدي الدور المفروض عليها تاريخيًا في دعم وحماية تلك الشعوب، التي هي جزء من التراث العثماني.
وذات الأمر ينطبق على روسيا في تشكيل الهوية الروسية التي تعتمد على الجوار القريب أو النظرية الأوراسية التي يتبناها الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين)، وترى هذه النظرية أن من حق روسيا إعادة السيطرة على الحوض الأوراسي استنادًا على المذهب الأرثوذكسي الذي لم يلغِ التعايش بين الأديان، ولهذا تنطوي النظرية الأوراسية على بعدين هما: البعد الجغرافي، والبعد الجيوسياسي، أي بمعنى حق روسيا في إحياء التراث الهوياتي القديم الذي يقوم على الإرث التأريخي للدول المجاورة لها "الجوار القريب" مع الاحتفاظ بالحدود الجغرافية للدولة الروسية، ومن ثم واجب روسيا حماية المنطقة المحيطة بها التي تتمثل في آسيا وشرقها، في حين تصبح الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولةً عن شمال الأطلسي فقط.
واضح أن الصراع الهوياتي الذي يؤسس له في منطقة الشرق الاوسط، وفي قارة آسيا وشرقها، يراد عبره تشكيل هوية وطنية جديدة تعتمد على أساس توظيف الشعار الديني ببعدهِ العاطفي، في الحفاظ على الهوية القومية ببعدها الجغرافي، الغاية الأساسية لهكذا نوع من الهوية هو تحقيق غرضين، يتمثل الغرض الأول بإدامة الدولة ونظامها السياسي عبر تعريفه بهوية محددة واضحة لمواجهة التحديات التي تواجه كل من تركيا فيما يتعلق بتهديد دورها الإقليمي عبر محاصرتها جغرافيًا بالقومية الكردية، أو قومياتٍ أخرى، ممكن أن تطالب بحق تقرير المصير، ومن ثم تفتيت كيان الدولة التركية، وفي روسيا لا سيما بعد الأزمة الأوكرانية. أما الغرض الثاني: العمل على تنمية الشعوب التي لها علاقة عاطفية اقتصاديًا، وسياسيًا، وعسكريًا، وثقافيًا، والحفاظ على حدودها، وسيادة أراضيها، ومنع دول أخرى من استثمار مواردها في إشارةٍ إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي يقول عنها أردوغان " تتدخل أمريكا في العراق وهي بعيدةً عنه آلاف الكيلومترات، وتنكر علينا التدخل فيما يجري على الحدود بيننا وبين العراق" .
اقرأ/ي أيضًا: