تقف الآن الحكومة العراقية أمام فرع يؤدي يمينه إلى الزيادة من سيطرة الحكومة المركزية على اقتصاد واجتماع الدولة، ويساره يجرها إلى تحجيم من تأثير الحكومة المركزية وإعطاء فرصة للقطاعات الخاصة بالنمو.
تَضخمَ القطاع العام في زمن نظام صدام حسين حتى أصبحت نصف الممتلكات في العراق تابعة للدولة
طوال 35 سنة من عمر العراق، سيطر النظام البعثي الاشتراكي على السوق العراقي، محولًا الشركات الخاصة إلى الوطنية، وواضعًا الدولة في مسؤولية توفير بعض من الخدمات العامة عن طريق وزاراتها، وقابضًا محتويات المجتمع ومكوناتها من الدين والعرق والرتب الاجتماعية، ومشكلًا إياهم على طريقة البعثية الاشتراكية الخاصة، ونذكر في ذلك أن دور الدين في السياسة كان ضئيلًا، بل بالكاد يبرز في النظام السابق. تَضخمَ القطاع العام في الحكومة البعثية حتى أصبحت نصف الممتلكات في العراق تابعة للدولة، ويعود الفضل في ذلك إلى تحول الشركات النفطية من القطاع الخاص إلى القطاع العام في عام 1970، مما وفرت المصادر المالية الكافية لتَسمن يد الدولة أكثر من السابق، وعلى حساب القطاع الخاص.
اقرأ/ي أيضًا: مشاريع "الاتفاقية الصينية" قريبة للتنفيذ.. ماذا سيجني العراق منها؟
وعندما سقط النظام الاشتراكي نتيجة تدخل الولايات المتحدة، كانت هناك رؤية واضحة (مع خطة سيئة وغير مدروسة) في قطع يد الحكومة العراقية من الاقتصاد العراقي، وإتاحة فرصة للقطاع الخاص بالنمو والازدهار، وذلك تيمنًا لرؤى الحزب الجمهوري الأمريكي (الذي كان في السلطة داخل الولايات المتحدة في زمن الاحتلال) الذي يؤمن بتقليل من سيطرة الدولة على الاقتصاد بشكل عام ومنعها من التدخل في الأمور الاجتماعية كثيرًا، ولكن بالطبع، فشلت الأحزاب الإسلامية بعد سيطرتها على الحُكم من تحقيق تلك الرؤية الليبرالية، فلم تستطع من منع نفسها في التدخل بأمور اجتماعية وفرض رؤيتها الخاصة على الشعب العراقي المتنوع، ووجود كميات هائلة من إيرادات النفط دفعت الحكومات ما بعد 2003 إلى الاستمرار بالسيطرة على الاقتصاد عن طريق توفير تعيينات مركزية، والزيادة من المشاريع الحكومية وتوسعة مؤسسات الدولة بدلًا من تعزيز القطاع الخاص ودعمه.
يشهد المواطن العراقي اليوم آثار ذلك التضخم غير الاعتيادي والمُدار بطريقة غير كفوءة، فمع هبوط أسعار النفط بسبب جائحة كورونا، ظهر هناك عجز في تسديد رواتب الموظفين والمتقاعدين البالغ عددهم 6 مليون، والوزارات العراقية كعادتها تفشل في إنجاز مشاريعها الحكومية لعدم وجود مخصصات مالية كافية أو بسبب الإدارة الفاشلة والفساد المتفشي، ولو تواجدت هذه الصفات (الفساد وسوء الإدارة) في الشركات الخاصة، كانت الآن مقصية من السوق العراقي أو تواجه ملفات قانونية ضدها، ولكن لكون تلك المدراء حكوميين، فلا توجد عواقب لتقصيرهم ولا محاكمة لسرقتهم من المال العام، ثم بعدها قُدمت الورقة البيضاء من قبل حكومة الكاظمي للرجوع إلى تلك الرؤية الأمريكية الجمهورية التي طرحت في 2003. الكاظمي نفسه يميل إلى الحزب الجمهوري الأمريكي، ويحاول أن يقلب ميزان الاقتصاد والناتج المحلي الإجمالي لصالح القطاع الخاص، لكنه أمام عقبات عريقة لا يقدر على تجاوزها بسهولة، من التعليم المجاني، والتعيين المركزي، والشركات والمعامل الوطنية، وكذلك المشاريع الحكومية الكبيرة.
وعلى ضوء ما تقدم، تطرح الأسئلة هنا: كيف يمكن للحكومة أن توفر الوظائف مع غياب التعيين المركزي؟ من الذي سيبني البُنى التحتية الضعيفة والهشة بغياب المشاريع الحكومية ومخططاتها؟ من الذي يأخذ دور الحكومة في الخدمات؟ من الذي سيدفع؟ إلى أين سيتجه الاقتصاد العراقي بعد تعزيز القطاع الخاص؟ وهل بإمكان القطاع الخاص استبدال أدوار الحكومة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة؟ هذه هي مجموعة قليلة من الأسئلة التي يجب على حكومة الكاظمي الإجابة عليها، والحكومة هي المسؤولة المباشرة عن الإشراف على عملية انتقال الاقتصاد من يد الدولة إلى يد الشركات الخاصة. ولا أحد يعلم إلى أي مدى سيستغرق ذلك الانتقال وإلى اي درجة يكون سلسًا، لكن أمام حكومة الكاظمي والحكومات العراقية القادمة طريقين: أما حل القطاع العام أو الاستعانة بالقطاع الخاص.
اقرأ/ي أيضًا: