ليس هناك ما هو أجمل من مشهد التزاحم على طاولة الكتب وتفحص العناوين، إنها عملية تذوق رفيعة مختلفة لا تحدث إلا مع شعوب حية حالمة بحياة هادئة، مجتمعات تريد اللوذ بغلاف الكتاب وصفحاته من خطر محرقة الجهل ولهيبه المستعر، وهذا ما تجلى في المظاهرة الثقافية الكبرى (أنا عراقي أنا أقرأ)، وهي تمثل دعمًا لترسيخ مبادئ الوعي وأسس التمدن في المجتمع وتعمل على تحصينه من الأفكار المظلمة التي تروج للموت لأجل حماية "المقدس"، وسحق مفهوم الحياة. إن التنوع الثقافي لا يخدم قوى الظلام والمحاصصة التي تؤسس لمشاريع الموت بالنيابة العابرة للحدود في أطر التشابه الطائفي، أنهم يريدون بلادًا تنتج أفرادًا مدججين بالبنادق لا بالكتب، هذا ما عملت وتعمل عليه حتى الآن أحزاب الحروب بقيادة أمراء الطوائف.
لا يخدم التنوع الثقافي قوى المحاصصة وهي تؤسس لمشاريع الموت بالنيابة العابرة للحدود في سياق التواصل في أطر التشابه الطائفي!
موسم سابع يكلل بالنجاح الباهر لمهرجان "أنا عراقي أنا أقرأ" بـ25 ألف كتاب بمختلف العناوين من أدب وفلسفة إلى فن وعلوم وتكنولوجيا وصولًا الى أدب الطفل، وفعاليات ثقافية موسيقية وفكرية لم تخل من الذوق الرفيع الذي يعبر عن روعة هذه الفعالية الكبرى على مختلف المستويات بالرغم من قصر عمر التجربة وبساطة الإمكانيات. نجحت الفعالية بفريق شبابي تطوعي مستقل، يعبّر عن صرخة الحب المخبوءة بروح كل شاب وشابة للحياة والقراءة، كما قيل في الأثر، إن القرّاء يعيشون أكثر من حياة، بناء على العلاقة مع الكتب لأنها الأجمل. يا لروعة المشهد الجميل الذي يجمع العشاق معًا حول الكتاب لخلق حلقة نقاش عن كاتب أو روائي أو فيلسوف، ما أبلغ تلك الرغبة التي كانت على وجه قارئ يتحسر على عدم اقتناءه ذلك العنوان الذي في يد قارئ آخر. هذا المهرجان بمثابة عصر النهضة بلون عراقي بحت خالٍ من الشوائب الافتراضية التي تكتب وتدون بثمن بخس لإسقاط التجربة الشبابية الخارجة عن إرادة أنظمة المحاصصة، وتشويه هذه اللوحة العراقية التي تنتمي للوطن دون الانشغال بالهويات الفرعية.
اقرأ/ي أيضًا: بـ25 ألف كتاب وفعاليات جديدة.. موسم سابع لـ"أنا عراقي.. أنا اقرأ"
لن تنجح قوى المحاصصة التي حركت ذبابها الإلكتروني للنيل من مهرجان "أنا عراقي أنا أقرأ"، عبر صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي لتصوير اللحظات الأخيرة التي أعقبت المهرجان وكأنها لحظات هرج وفوضى، ولكم كان مفرحًا اندفاع الشباب العراقي لتوضيح ما كان مبهمًا ولحفظ قدسية الكتاب والقراءة التي يدعمها المهرجان، هذه القوى عبر ذبابها تريد لبغداد أن تتحول عبر العقل الطائفي والعسكري إلى مظهر من مظاهر المجتمع الأسبارطي، حيث يريدون مدينة تعيش على أخلاقيات حربية، تسعى لصناعة مواطن عسكري بصفات عنيفة ومن فضائله الغطرسة والفظاظة بكل معانيها.
بفضل هذه القوى "المحاصصاتية" صار اللباس العسكري زيًا رسميًا يغلف وجه المدن، حتى اللغة غدت مختلفة وتعبر عن العنف بكل تفصيلاته وصارت متداولة على الصعيد الاجتماعي. القراءة والتمدن لن يحقق الغاية التي يسعى إليها أمراء الحرب والطوائف وهي القسوة كخصلة لا بدّ أن تلازم المجتمع المتعسكر. يتوهم هؤلاء أن المجتمع الذي يقرأ سيمشي معهم للحرب على أنغام موسيقاهم، الواقع يقول شيئًا آخر وبصوت مسموع بعد الزخم الكبير الذي شهده المهرجان "إحنه مشينا مشينا للقراءة".
الأمم التي تخرج من الحروب المدمرة تلجأ لإحياء الكتاب ومسح غبار المدافع والبارود عنه لإعادة بناء البلد وتدجين الأجيال الجديدة على الكتابة والقراءة، هناك فرق كبير بين دخان البندقية ورائحة كتاب قد اصفرت أوراقه لقدمه، جرب أن تستنشق الرائحة وعبر بعد ذلك عن مفعول الخلطة السحرية التي تجذبك لخيارين لا ثالث لهما، أما الحياة أو الموت. الشباب العراقي يقول لكم لقد سقط متاعكم ولا مقام لكم فيها، القراءة سبيلنا للحياة والوعي والبناء والاحتجاج ضد المحاصصة والفساد وتقسيم البلاد، ولا نريد الموت في حروبكم العبثية "العابرة لحدود الطوائف أحيانًا"، نريد العيش بكرامة وحرية، نقرأ كتابًا ونشاهد فيلمًا ونسمع الموسيقى ونعمل بين الناس، نحن نؤمن بمنطق أن الإنسان خُلق ليعيش وينتج، وليس ليقتل بالنيابة عنكم وعن أحلامكم الطائفية.
اقرأ/ي أيضًا: