كانت رغبة أمي أن أعمل في الصحافة، تحديدًا كمراسلة أخبار، لم تفسح لي مجالًا لأحلم حتى ما أريد أنا. درست أمي آداب تاريخ في جامعة الموصل، ظلت متقدة بالأحداث ومهوسة بالأخبار وتربط كل شيء لأنها تملك خارطة الماضي، عندما يطل علينا مذيع الأخبار بخبر ما؛ فلديه هي ما ورائياته، أحيانًا تصيب وأحيانًا تخطأ ففي لحظاتٍ كثيرة، خصوصًا تلك التي تتعلق بالمصائب الكبيرة بالبلد يكون لرأيها العاطفي حضور قوي.
بإصرارها دفعتني صوب هذا العالم المحفوف بالجدية، أن تسبر أغوار أسرار الدول وتسمح للملفات الصغيرة، أن تتدفق لترى أنها مرتبطة بملفات كبيرة وجهات متنفذة وتصل لحائط مسدود حيث تعرف المعلومة، ولا تملك دليل إثباتها، وأنا كنتُ صغيرة عمرًا وخبرةً ودرايةً في التعامل مع الملفات التي تصبح حساسة بعد البحث فيها قليلًا، أذكر في البداية في بعض اللقاءات لا أعرف كيف اسأل المتحدثين، يكونوا هم شهود على حوادث مهمة وأنا أخاف أن يسترسلوا لكي لا يعرضوا حياتهم وحياتي للخطر، ولأن توجه القناة في الأخير هو الفيصل.
صرت أتعلم رويدًا رويدًا، أندم على القديم واتطلع إلى ضبط القادم، أراقب كبار المراسلين واقرأ كثيرًا، وكلما كنتُ اقرأ خصوصًا في جذور الملفات الإنسانية أصاب بانتكاسة عاطفية، أيعقل أن تكون هذه الحقيقة! لم أرد أن أصدق إن العالم مكان قاسٍ. لا أعرف ماذا أقول لأمي الآن، وأنا أراقب كيف تحول عملي ومجموعة آرائي إلى سيل من الاتهامات التي كادت أن تؤدي بحياتي، ماذا أقول لها وقد حملتني عبء مهنة الخطر خصوصًا في بلد مثل العراق حيث وضعته منظمة مراسلون بلا حدود في 2021 المرتبة 165 على العالم في الحريات الصحافية.
ماذا أقول لها عن معظم أولئك المتحدثين الذين التقيت بهم في أوقات الصراع والنكبات والدمار، وظلت قصصهم تعيش داخلي، لم أخبرها يومًا أنني أعاني من متلازمة الاحتراق الداخلي بسبب هذه المهنة، وربما لم تسمع عنها من قبل مثلما لا يعرف عنها الكثير من الناس. لا داعي أن أكتب في هذا المقال كيف أن الصحافي يتعامل مع مستقبله بتأرجح مادي دائم، لأنه أكثر من يختبر مفهوم التهديد بكل أوجهه، فهو مهدد في الفصل من العمل، مهدد في تقليص الكادر، مهدد بسبب توجه القناة أو الوكالة التي يعمل بها مهدد بخسارة الأصدقاء والأقارب بسبب رأيه السياسي والأهم؛ حتمًا مهدد بسبب عمله وما يسأل عنه أو يكشفه أو يحقق فيه، وحين تصبح مهدد في حياتك خطر تهديد استقرارك المادي يصبح في ذيل القائمة حتى لو لم تعد تملك 100 $ يتيمة في جيبك.
في اليوم العالمي للصحافة أقول شكرًا ماما لأنك أهديتني قربانًا لمهنة المخاطر، أعطيتني الطريق ولكنني أضعتُ الوصول، وهذا حال معظم الصحافيين الذين ينشدون حياةً اكثر استقرارًا في مناطقهم فيرون أنفسهم أكثر اضطرابًا من الداخل.
اقرأ/ي أيضًا:
عن أحمد عبد الصمد وحكاية العراق في البصرة
صحفيو العراق.. ملاحقة مستمرة بين قوانين ديكتاتورية قديمة و"ميليشيات" جديدة