مطلبُ تشكيل حكومة أغلبية سياسية تقابلها معارضة برلمانية، رافق الجدل السياسي في العراق منذ أكثر من عقد، وقد تنامت المطالبة به، بعد فشل جميع حكومات عقب العام 2003، في تقديم واجباتها الرئيسية كالأمن والخدمات، دون أن يتحمل ائتلافٌ حكومي المسؤولية، نظرًا لمشاركة جميع القوى السياسية في الحكومات.
ويفترض المطالبون بحكومة أغلبية سياسية، أنّه بنهاية عمر الحكومة، سيتمكن المصوّتون من الحُكم على الأداء الحكومي، واختيار التجديد للائتلاف الحكومي، أو التصويت للائتلاف المعارض، وهو ما سينعكس أولاً على أداء الحكومة التي ستكون أمام تحدي الاستبعاد الانتخابي، وثانياً على إنهاء عرقلة العمل الحكومي، الذي تتورط به غالبًا قوى سياسية تستفيد من حصتها في الحكومة، لتنفيذ أجنداتها الحزبية.
تحولت فكرة حكومة الأغلبيةرغم بساطتها التي يعبّر عنها "ويكيبيديا" ببضعة أسطر منذ ستة أشهر إلى قصة معقدة
كما يفترض الداعون إلى حكومة الأغلبية، أنّ وجود معارضة برلمانية واضحة، سيضع العمل الحكومي تحت مجهر لا يرحم، ويقلص فرص الفساد إلى أدنى حد، بعد إنهاء طريقة تقاسم المكاسب والصمت المتبادل.
لكن فكرة حكومة الأغلبية، رغم بساطتها التي يعبّر عنها "ويكيبيديا" ببضعة أسطر، تحوّلت منذ ستة أشهر إلى قصة معقدة، دونها التفسيرات والتأويلات والمُبادرات، والتحذير من "مؤامرات تستهدف المكوّن الشيعي" في محاولة لثني ائتلاف الأكثرية، عن استبعاد بعض الفصائل والقوى الشيعية من تشكيلة حكومته المقبلة.
مرور سريع على التاريخ
تحتفظ ذاكرة العراقيين بمئات التصريحات التي أطلقها مقرّبو إيران –المنضوون حاليًا في الإطار التنسيقي الشيعي- ضد الحكومات التوافقية، ومع إقامة حكومات أغلبية سياسية، قبل أن تكتشف تلك الجهات، أن إصدار حكومة الأغلبية المتوفر، سيعني استبعادها.
في أيار/مايو عام 2014، قال رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي بعد الانتخابات، إنه ماضٍ بتشكيل حكومة أغلبية سياسية، بعد أن حقق مع حلفائه النصف +1 من عدد مقاعد البرلمان.
مطلع نيسان/أبريل، عام 2016، نصت مبادرة زعيم جماعة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، على التحوّل نحو الأغلبية السياسية.
عام 2018، قال زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، إنه "لن يسمح باستمرار التوافقية السياسية، بل سيحقق حكومة أغلبية وطنية".
رفض واحد بعدة نكهات
أما بعد إعلان التحالف الثلاثي -بين زعماء التيار الصدري مقتدى الصدر، والديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، وحزب تقدم محمد الحلبوسي- باسم "إنقاذ وطن"، وتوجهه لتشكيل "حكومة أغلبية وطنية"، فإن قوى الإطار تجتهد في محاولة تفسير إصرارها على رفض التحالف العابر للطائفية، وتبنّيها استعادة التحالفات على أساس المكوّنات.
وترفض فصائل الإطار اتهامها بالاستجابة لرؤى طهران، التي عبّر عنها السفير إيرج مسجدي، حين قال إن "الوقت غير ملائم لولادة حكومة أغلبية في العراق".
وفي البدء، لمّحت القوى المقربة من إيران، إلى وجود "مؤامرةٍ تستهدف إقصاء قوى وفصائل شيعية حصرًا من المشاركة في الائتلاف الحكومي المقبل"، غير أن القوى خارج ائتلاف الحكومة المُفترض، باتت تضم أحزابًا كردية وقوى سنية وازنة، ومستقلين، ولذا تراجعت قوى الإطار تدريجيًا عن فكرة "المؤامرة" واتجهت إلى خطاباتٍ أخرى.
وتجمع قوى الإطار على رفض تشكيل الحكومة العراقية المُقبلة عبر التحالف الثلاثي، كما ترفض أن تذهب هي أو حتى تحالف الصدر، إلى المعارضة، وتطالب بتشكيل حكومة توافقية تضم جميع القوى الشيعية. ويعزو بعض أعضاء الإطار موقفهم إلى "ضرورة وحدة البيت الشيعي"، كما أن لبقية الأطراف، تفسيرات واجتهادات مُختلفة.
يقول ائتلاف دولة القانون بزعامة نوري المالكي، إنّ مشاركة جميع القوى الشيعية في الحكومة لا يعني أنها ستكون حكومة "محاصصاتية" بل توافقية، كما يتحدث المالكي، عن أنّ الذهاب إلى المعارضة ينبغي أن يكون "وفق رغبة الأحزاب"، وليس عبر تشكيل ائتلاف حكومي يستثني الآخرين.
أما قيس الخزعلي، فيقول إن تحالف الصدريين بـ 73 مقعدًا، مع الديمقراطي الكردستاني (31 مقعدًا)، وحزب تقدم (37 مقعدًا)، سيعني أن الطرف الشيعي في التحالف، سيكون أقلية، وذلك بناءً على سيناريو متُخيل يتآمر فيه الطرفان السني والكردي ضد الصدر.
مصنع المصطلحات المراوِغة
تعبّر أطراف إطارية بصريح العبارة، عن مخاوفها من الاستهداف القانوني فيما لو تجردت من حماية السلطة التنفيذية واتجهت إلى المعارضة، خاصة بعد أن قضت تلك القوى سنوات في السلطة، لم تكن خالية من الفساد والانتهاكات، ولذا فهي تطالب بلا مواربة بضمانات لعدم المساءلة.
غاص تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم منذ 6 أشهر في اجتراح مصطلحات وإطلاق مبادرات تضمن عدم استبعاده أوحلفاءه من التشكيلة الحكومية
أما تيار الحكمة، بزعامة عمار الحكيم -الذي شكل انضمامه للفصائل في الإطار التنسيقي صدمة لبعض متابعيه- فقد غاص منذ 6 أشهر في اجتراح مصطلحات وإطلاق مبادرات تضمن عدم استبعاده أوحلفاءه من التشكيلة الحكومية، مفترضًا أن ما يقدمه يمثل مخارج لما يصفه بالانسداد السياسي.
وبدأ الحكيم أولى المناورات بعد خسارته وحلفاءه الانتخابات، حين بثت أوساطه "فكرة" تقضي بتجاهل نتائج الانتخابات، على مستوى أعداد المقاعد، والتعامل مع القوى السياسية وفقًا لعدد الأصوات التي حصلت عليها، لكن المقترح تعرض بدوره للتجاهل، كما نال نصيبًا من السخرية، خاصة من أوساط التحالف الثلاثي الذي حصد النصيب الأكبر من المقاعد.
وعُرِفَ عن الحكيم، إطلاق المبادرات التي يصفها منتقدوه بالمُتحذلقة، والتركيز على لعب دور "الوسيط ومُبتكِر الحلول"، بصرف النظر عن ما إذا كانت أدواره تُفضي إلى شيء، أم تذهب أدراج الرياح، لكن قيادات تيار الحكمة، يقولون إن تجاهل تلك المبادرات تسبب بأزمات كبيرة، مثل سقوط 3 محافظات بيد تنظيم داعش.
وعام 2016، طالب متظاهرون بعد حراك دام نحو عام، بإقالة الوزراء المتحزبين، إثر الفشل في تقديم الخدمات، واستيزار شخصيات "تكنوقراط" مستقلة، غير أن الحكيم خرج حينها بـ"وثيقة شرف" دعا خلالها إلى مصطلح جديد هو "التكنوقراط السياسي"، والذي يعني وفق الحكيم، أن تقدم الأحزاب ذاتها وزراء مختصين في شأن الوزارة التي يترشحون لشغلها، وعام 2018 أعاد التذكير بالفكرة.
أما في شأن الجدل الحالي حول حكومة "الأغلبية الوطنية"، فيحاول "الحكمة" حمل بطيختين بيد واحدة، حين يدعو إلى إشراك جميع القوى الشيعية في الحكومة عبر ائتلاف حكومي موسّع على غرار جميع الحكومات السابقة، وتسمية هذا الائتلاف المفترض "ائتلاف الأغلبية الوطنية" ببساطة.
ويوجد الحكيم حلاً لفكرة عدم وجود معارضة في مقترحه، عبر الاقتراح على النواب المستقلين التوجه للمعارضة في البرلمان.
وبدل أغلبية النصف زائد واحد، وهي الطريقة المعروفة في تجارب الدول لتشكيل الائتلافات الحكومية، يخرج القيادي في "الحكمة" بليغ أبو كلل من قبعته مقترح "أغلبية أم الثلاثة أرباع"، مكررًا سيناريو التخلص من المستقلين، للحفاظ على حصة القوى الحاكمة منذ العام 2003 في الحكومة المقبلة.
المعارضة بالدبابات
وتطلق قيادات تيار الحكمة، الكثير من الأفكار التي تفسّر سبب دفاعهم عن زج المستقلين في المعارضة، وإشراك جميع الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة في الحكومة، غير أن تفسيرات حليف تيار الحكمة في الإطار التنسيقي، أحمد الأسدي تبدو أكثر تعبيرًا، إذ يتساءل عمّا إذا كان من المجدي الحديث عن توجه قوى الإطار إلى المعارضة، مع ما تملكه من دبابات وصواريخ وطائرات مسيرة، وهو ما يبدو الجزء المفقود الذي لا يتحدث عنه الحكيم أثناء دفاعه عن ضرورة إشراك حلفائه في الإطار ضمن التشكيلة الحكومية المقبلة.