في مثل هذه الليلة الرمضانية، العامَ الماضي، اغتال مسلحون المتظاهر إيهاب الوزني أمام منزله وسط كربلاء، واتهمت السلطات القيادي في الحشد الشعبي قاسم مصلح بالضلوع في العملية، وقامت باعتقاله، قبل أن تحاصر قوات الحشد مقر إقامة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، لينتهي الملف بالإفراج عن مصلح، وغلق القضية.
تسلط خطوات الكاظمي المتصاعدة الضوء على طبيعة تعاطي الرجل مع طموحه لنيل ولاية ثانية وتأخذ مسارًا سبقه إليه المالكي
مطلع الأسبوع، ظهر الكاظمي وهو يمنح مصلح مصافحةً مميزة -لم يكن مضطرًا لها- بعد أن وصل رئيس الوزراء –الذي عمل كاتبًا معظم حياته- إلى الأنبار لـ "يشرف" على عملية عسكرية.
وتسلط خطوات الكاظمي المتصاعدة، الضوء على طبيعة تعاطي الرجل مع طموحه لنيل ولاية ثانية، بعد نصف الولاية التي شغل فيها مقعد عادل عبد المهدي، رئيس الوزراء السابق الذي خلعته احتجاجات تشرين.
وتأخذ بعض تحركات الكاظمي مسارًا مألوفًا في العراق، سبق أن اتخذه نوري المالكي، زعيم أكبر ائتلاف في الإطار التنسيقي، الذي بات يضم الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة الأقرب إلى إيران.
التاريخ القريب بين الكاظمي والمالكي
في ذروة الاتهامات التي كان يواجهها المالكي بالتفرّد في السلطة، وسحب البلاد إلى جانب إيران، كان الكاظمي يتساءل عمّا إذا كان المالكي دكتاتورًا بالفعل؟ حين كتب رئيس الوزراء الحالي مطلع العام 2013، مقالاً حامَ خلاله حول مسؤولية المالكي عما يجري في البلاد، وشتت كرة المسؤولية بعيدًا نحو البرلمان وقوى سياسية أخرى.
المصافحة الحميمية بين الكاظمي ومُصلح، أحد أبرز المُتهمين في ملف استهداف الناشطين، ليست بعيدة عن مسار رئيس الوزراء الذي ينتمي نسبيًا إلى "تيار البرود والتعايش" مع المسؤولين المتهمين بالمجازر، وإن لم يُظهروا أي بادرة للتراجع.
تمر في هذه الأيام من نيسان/أبريل أيضًا، الذكرى التاسعة لمجزرة الحويجة، حين قتلت قوات حكومية بقيادة نوري المالكي عشرات المتظاهرين واعتقلت المئات.
في وقت لاحق من المجزرة، كان الكاظمي يوزّع عبر بريده الالكتروني، نصّ مقابلة أجراها مع المالكي المتهم الرئيس بالمجزرة، ولم يتطرق الكاظمي –الذي كان صحفيًا حينها- إلى أي سؤال يخص المجزرة.
لم تكن علاقة الرجلين -رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي، والأسبق نوري المالكي- تندرج ضمن أيٍ من مستويات النديّة، أما التطورات الأخيرة فتشي بأن الأول قد يكون متأثرًا بطريقة الأخير.
لم يشترك ائتلاف المالكي في التصويت على حكومة الكاظمي، لكن المالكي قال إنّه رفض المشاركة في مشروع للإطاحة بحكومة الكاظمي وطلب منحه فرصة للعمل.
الكاظمي والـ "Junk Food"
قبل عمله في الصحافة، ثم انتقاله إلى قطاع رئاسة حكومات الدول، يقول مُطلعون على عمل الكاظمي أثناء حقبة معارضة النظام السابق، إنّه كان ماهرًا في مجال العلاقات العامة، وموهوبًا بالإقناع.
ولسببٍ أو لآخر، عجّت واجهات الصحف الأمريكية والأوروبية والعربية، منذ أيار 2020، بمقالات متفائلة، ترحّب بـ "رئيس الوزراء الذي سيخرج العراق من قبضة هيمنة الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران"، كما في "فورين أفيرز" الأمريكية، التي عنوَنَت في 25 أيار/مايو 2020: "بإمكان العراق الآن انتزاع سيادته من إيران".
في 25 أيار/ مايو 2021، قتلت القوات التي يقودها الكاظمي شابّين اثنين، كانا يشاركان في تظاهرة للمطالبة بمحاكمة قتلة متظاهرين ونشطاء آخرين، تظاهروا في وقت سابق ضد النفوذ الإيراني.
لكن مجموعة من المؤسسات البحثية والكتاب الغربيين والعرب -الذين تبيّن لاحقًا أنّهم كانوا يترددون على بغداد، ويحظون بإقامة مريحة- استمروا بالكتابة عن "رئيس الوزراء المناهض لهيمنة مسلحي إيران".
يمكن المقارنة بين تحركات الكاظمي الأخيرة والاستدارة التي اتخذها المالكي صوب إيران بعد انتخابات العام 2014
أما بالنسبة للنشطاء في الداخل، فإن التقييمات الغربية والعربية للكاظمي، تقودهم إلى الدهشة في غالب الأحيان، لأن النتائج الملموسة على الأرض كانت في الغالب مناقضة لـ "مانشيتات" الصحف.
وكثيرًا ما وُصِفَت حكومة الكاظمي بأنّها "حكومة فيسبوك"، لكنها كانت على الأرجح، أقرب إلى حكومة "المانشيت"، كما في إدامة حديث مسؤولي الحكومة عن إحياء المفاعل النووي العراقي، وإطلاق قمر صناعي عراقي إلى الفضاء، والتوسط بين القوى العالمية، فضلاً عن ملف تصحيح العلاقة مع إيران.
ويُمكن القول إنّ الكاظمي استخدم موهبته، ونجح في إقناع قوى مختلفة بأنّه "الرجل المناسب"، كما أوحى للكثيرين في الداخل والخارج، أن لديه "شيئًا ما" سيفعله في الوقت المناسب، لكن نهاية عامين من عهد الرجل، قادت كثيرين إلى الاعتقاد بأنّه ما مِن وجبة حقيقية تم تقديمها للبلاد، وأن ما جرى كان أكبر عملية إنتاج "مانشيتات" منذ العام 2003.
مسار المالكي
يُمكن اختصار تكتيك المالكي ببضع محطات، مثلت الأولى تحدّي الجماعات المسلحة المتصلة بإيران، فور تسلمه منصب رئيس الوزراء، ومحاولة رفع مستوى الأمن، ثم تعزيز علاقته بالمجتمع الدولي والولايات المتحدة، تمهيدًا لولاية ثانية، واجه خلالها المالكي تهمة الاستدارة نحو إيران بشكل مُطّرد، كلما اقترب موعد الولاية الثالثة التي لم تتحقق.
وانتقل المالكي من المطالبة بتحقيق دولي ضد سوريا، التي كانت تحتضن جماعات مسلحة بدعوى "مقاومة المحتل الأمريكي"، ووضع أكاليل الزهور في "أرلنغتون" على قبور قتلى الجنود الأمريكيين، الذين كانوا يحتلون العراق رسميًا بأكثر من 120 ألف مجنّد، إلى تبنّي خطابات "المقاومة الإسلامية" ثم إعلان الانحياز رسميًا إلى الجانب الإيراني.
مسار الكاظمي
وصل الكاظمي إلى منصبه عام 2020 مرشحًا عن زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، وبالمقابل، قدّم الأخير خدمات كبيرة للتيار، على المستوى الإعلامي على الأقلّ، لكن قيام الصدر بترشيح قريبه جعفر الصدر زعزع مسعى الولاية الثانية.
وحافظ الكاظمي على علاقة متزنة مع الصدر، وخفّض تصريحاته السياسية منذ ترشيح جعفر الصدر، استنادًا إلى أنّ رئيس الوزراء الحالي يبقى أحد المرشحين المُفضلين لدى الصدر.
وبينما يُنظر إلى جعفر بوصفه أكثر قدرة على خوض مواجهة قانونية وسياسية مع حلفاء إيران، نظرًا لجملة عوامل يتعلق بعضها بعائلته ومواجهاته السابقة مع أنصار ولاية الفقيه، إلاّ أنّ الكاظمي يبقى ضمن دائرة اهتمامات زعيم التيار الصدري، كخطة بديلة، خاصةً بعد أن نشأت علاقة وثيقة بين الرجلين، لم تستند إلى أنّ يستهدف الكاظمي خصوم الصدر، بل إلى "تمكين الأخير من الهيمنة بشكل تدريجي على المناصب الحساسة في الدولة" كما يقول خصومه.
لكن انتعاش حظوظ الكاظمي يبقى مرهونًا باستحكام الانسداد السياسي بين التيار والإطار، ووصولهما إلى اتفاق باختيار مرشح توافقي، وحينها قد لا يكون الكاظمي مطابقًا لمواصفات التوافق، خاصة بعد اتهامه بالانحياز للتيار الصدري الذي رشحه.
الطريق نحو تجديد ثقة إيران بالكاظمي
أجرى الكاظمي عدة مناوشات غير مجدية ضد بعض الجماعات المرتبطة بإيران، متأثرًا بضغط احتجاجات تشرين، لكن ومن أجل استعادة أهليته لنيل ثقة إيران وحلفائها، يُمكن ملاحظة جملة خطوات أقدم عليها الكاظمي استنادًا إلى المعطيات الجديدة.
وسيكون مفهومًا أن يحاول الكاظمي استثمار الطموح المتزايد لدى قيس الخزعلي ونوري المالكي بتشكيل حكومة بعيدة عن الصدر، وهو ما عبر عنه الخزعلي صراحة.
يحظى الكاظمي بعلاقات ممتازة بالاتحاد الوطني الكردستاني من جهة، وبغريمه الحزب الديمقراطي الكردستاني من جهة أخرى، وبإمكان الكاظمي التحرك لإقناع قوى الإطار، بقدرته على لعب دور في ترطيب الأجواء بين الإطار والقوى الكردية، بعد أن تضررت العلاقة بينهما نتيجة للقصف الإيراني على أربيل، والاستهدافات الصاروخية المتكررة، والتصعيد المتبادل.
خاض الكاظمي عدة مناوشات دون نتائج حقيقية ضد بعض الجماعات المرتبطة بإيران لكنه خفف لهجته مؤخرًا
وقد كثّف الكاظمي حضور مناسبات قوى الإطار والفصائل، حتى غير الرسمية، ودأب خلال الأسابيع الماضية، على تكرار التقاط الصور مع شخصيات مثل نوري المالكي، فالح الفياض، هادي العامري، "أبو فدك"، ومؤخراً قاسم مصلح، الذي ظهر معه في صورتين، واحدة أثناء اجتماع، وأخرى أثناء استقبال حار.
وفي هذا السياق، لفت عدم نشر مكتب الكاظمي صورًا مع قاسم مصلح، والاقتصار على لقطات عابرة تُظهره إلى جانب "أبو فدك" خلال زيارة الأنبار الأخيرة، فيما يبدو أنّها كانت مناورة إعلامية غير مجدية، حيث نشر إعلام الحشد الشعبي ألبومًا كاملاً يُظهر الكاظمي وهو يتوسط الشخصيات الفصائلية.
في مقابلته الأخيرة مع "واشنطن بوست"، خفف الكاظمي لهجته إلى مستوى قريب من الصفر، لم يقل أنه "يلاعب الثعابين" كما في حديثه بعد تولي المنصب ببضعة أشهر، بل لوّح للإيرانيين حين تحدث بوضوح عن أهمية إبرام الاتفاق النووي.
وتجاهل الكاظمي اقتحام منفذ الشلامجة الحدودي مع إيران، والذي رعته شخصيات فصائلية بارزة، تابعة لحركة عصائب أهل الحق وغيرها.
وعلاوةً على ذلك، تراجعت حكومة الكاظمي عن قرار سابق بمنع الاستيراد، كان يهدف إلى تنشيط الزراعة والصناعة المحلية، واستأنفت فتح استيراد الغذاء، وهو ما يصب بدرجة أساس في صالح طهران، التي تمثل أحد كبار المصدّرين إلى العراق، وتعيش أوضاعًا اقتصادية هي الأسوأ، ولذا اعتُبرت خطوة بغداد، توددًا آخر لطهران.
كما يمكن الحديث عن الدور الغامض للكاظمي في ملف عودة علي حاتم السليمان في ذات الإطار، حيث جال الأخير في قلب العاصمة بغداد ثم أقلته مركبات حكومية إلى حفل الاستقبال في الأنبار، وهو حراك نُسب إلى حلفاء طهران بالمقارنة مع تجارب سابقة.
فضلاً عن كل هذا، خيّم صمت شديد خلال الأشهر الماضية على ملف محاكمة قتلة المتظاهرين، لاسيما عمليات الاغتيال، التي أُدينَ فيها عناصر على صلة بجماعات مسلحة معروفة، فيما سادت أنباء عن تسويات غامضة لإعادة محاكمات بعض المدانين، واكتفت الحكومة بالتقاط بعض الصور مع جرحى ومشلولين وضحايا محاولات اغتيال، قامت بإرسالهم للعلاج في الخارج.
وأغلقت حكومة الكاظمي عمليًا، ملف القصف الإيراني على أربيل، رغم أن تقرير التحقيق البرلماني -الذي وقّع عليه رئيس تحالف الفتح المقرب من إيران- نفى الرواية الإيرانية بوجود مقار إسرائيلية في مناطق القصف.
خلاف حقيقي أم مُتخيل؟
ويبقى الحديث عن مسافة كبيرة بين الكاظمي والإيرانيين بحاجة إلى الكثير من الأدلة، خاصة مع الإشارات السياسية إلى أنّ تولية الكاظمي واستهدافه من قبل بعض الجماعات المرتبطة بإيران، كان معبرًا عن خلاف داخلي محدود داخل الأجنحة الإيرانية نفسها، وليس معبرًا عن موقف إيراني، وهو ما أشارت له صحيفة "غارديان" البريطانية منذ وقت مبكر، حين تحدثت عن دور لزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله في تسهيل ترشيح الكاظمي، إضافة إلى ما تردد عن تلقيه خدمات إعلامية من عناصر تابعة لإعلام الحزب اللبناني، ظهرت على اللهجة المخففة لبعض المنصات المقربة من حزب الله في التعاطي مع رئيس الوزراء العراقي.
وتراهن عدة دوائر قرار في الداخل والمحيط والعالم، على أنّ سلوك الكاظمي يندرج ضمن "التكتيكات" للوصول إلى هدف الولاية الثانية، التي يفترض أولئك، أنها ستكون "فاتحة لعهد جديد من العدالة والاستقلال والوطنية"، إلاّ أنّ تلك التوقعات تنتمي أيضًا إلى فترة الأيام الأخيرة من عهد حكومة المالكي، والتي أثبتت أحداثها خطأ مراهنات مشابهة.
سحر عطايا الإيرانيين
ويمكن تصور طموح الكاظمي في ظل المرحلة الراهنة عبر استذكار حوار يعود لخريف العام 2018، يقول فيه السياسي المخضرم محمود المشهداني: "حين قام المبعوث الأميركي بالضغط علينا وتهديدنا بعقوبات، أجبناه هل منحتمونا شيئًا لتقوموا بسحبه؟ (..) أما حجي قاسم سليماني فهو صاحب قرار، وإذا أراد إعطاءنا شيئًا فبإمكانه ذلك، وكل ما نحتاجه يقع في متناول الإيرانيين، بعكس الأمريكيين. وبعيدًا عن المُغريات، فإن الأمريكيين لا يخيفوننا، أما إيران فإن ذراعها الداخلي مؤثر".