في كل ذكرى للحزب الشيوعي العراقي أكتب شيئًا وجدانيًا عنه، لكنني لم أفعل هذه السنة، ربما لسوء مزاجي بسبب كورونا. لذا قلت لنفسي: فلأستثمر الفرصة وأكتب عددًا من المقالات عن "شيوعيتي" التي هي بالسليقة. أقول ذلك انطلاقًا من كوني قد تربّيت في بيت "أحمر الوشيعة"، بيت كان يشهد، على "حس طبل" الجبهة الوطنية، حفلات صاخبة يقيمها رفاق أبي، أبو حافظ وأبو عامر وأبو زينب وسواهم. حفلات محترمة ومحتشمة خلافًا لما كان يشاع في المجتمع من أنّ الشيوعيين متهتكون أخلاقيًّا، لا يلتزمون بتقاليد المجتمع ولا بقيم الدين، وهذا خطأ شنيع. أبي مثلًا كان دأب، قبل أن تحين الصلاة، على رفع صوت القرآن في الراديو، وفتح النوافذ والأبواب. ذات يوم سألته مستغربًا: أنت شيوعي، ما شأنك بعبد الباسط والحافظ خليل إبراهيم والجنة والنار؟ فأجاب: أفعل هذا لأمك، هي مؤمنة وتصلي وأنا أحترم معتقداتها. درسٌ "ماركسي" لا ينسى عنوانه احترام معتقدات الناس وتقاليدهم. بالنسبة للأخيرة، كان الوالد من أشدّ الرجال التزامًا بالقيم العشائرية رغم أفنديته وحداثة تفكيره. لا يفوّت "فاتحة" أو عرسًا، ويفهم جيّدًا أنّ مثقفًا يعيش في مجتمع ما عليه احترام منظومته القيمية ليكون مؤثرًا فيه.
نحن المثقفين لسنا مهيئين سيكولوجيًا ولا ثقافيًا لنكون شيوعيين محترفين. متمردون، نرجسيون، ولدينا وسواس من أي نوع من أنواع الالتزام
إذن أنا شيوعي بالسليقة، وأعشق حزب فهد، فهد الذي لا أزال أحفظ أغنية عنه كان رفاق أبي يرددونها في حفلاتهم: فهد منّا وفهد بينا.. ونجمة مسامرة العمال.. وگلبك للمعامل باب.. نزعنا گلوبنا البيضه وزرعناها عله گبرك مزهرية شوگ ورياحين. أحفظ تلك الأغاني على الرغم من مرور عقود على سماعي لها، أحفظ أيضًا الكثير من القصائد الشعبية. كانت الثقافتان الرفيعة والدنيا حاضرتين في بيتنا، هل تراني أنسى ظلّ الشاعر شاكر لعيبي أو حضور الروائي نجم والي لأشهر في دارنا؟ ذات صباح مثلًا، فوجئنا في البيت بزيارة الشاعر "الشيوعي" حينذاك كريم العراقي. في غرفة الضيوف، قرأ لنا، أنا وشقيقاتي، عددًا من قصائده. تخيلوا جلسة شعرية تقام لأطفال في السابعة والثامنة والسادسة من العمر يحييها شاعر شهير في حينه.
اقرأ/ي أيضًا: الحزب الشيوعي العراقي: من ساحة التحرير إلى "سائرون"
فكريًا، قرأت ماركس وأنجلز ولينين، وتعرّفت على الماركسية عن طريقهم، ورغم حبي للحزب إلا أنني لم أنتم له أبدًا. لماذا؟ ربما لسبب موضوعي كوني كبرت في مرحلة تاريخية طغى فيها حزب واحد فأنهى الحياة الديمقراطية التعددية تمامًا. مع هذا، هناك تجربتان خضتهما؛ أولاهما مجنونة وجرت وقائعها العجيبة أثناء انتفاضة آذار ١٩٩١ واستمرت لشهرين بعدها، ولسوف أخصص لها مقالة أخرى. أمّا الثانية فعاقلة، بل عاقلة جدًا. دعوا المجنونة لوقتها وتعالوا للثانية؛ بعد انتفاضة آذار ١٩٩١ بأشهر، بدأ يتردد عليّ صديق يسكن من مدينة الثورة، ثمّ اتضح أنه أحد الكوادر البارزة في الحزب الشيوعي العمالي العراقي، وهذا الحزب "سلفي" يؤمن بالعودة إلى المنابع الأولى لتصحيح الانحرافات التي طالت الماركسية. لعلّ ذلك الصديق يقرأ مقالتي الآن ويبتسم، خصوصًا إذا تذكر نقاشنا عالي الصوت في مقهى حسن عجمي ظهيرة أحد الأيام. صارحني حينها برأيه بي وبالمثقفين عمومًا، فقال إننا نكذب على أنفسنا ونجلس على تلّ عال نتفرج على التاريخ، التاريخ الذي يصنعه العمال والفلاحون. كان عرض عليّ الانتماء للحزب قبلها وكدت أفعلها لولا أنني تمهّلت أو ربما أخذتني نوبة من "فوبيا" الالتزام، فضلًا عن شعوري بأنهم "سلفيون" ويعيشون في الماضي. وقد حدث، بعد عام ٢٠٠٣، أن شبهتهم في مقالة بأنّهم (وهابيو الشيوعية)، وهو ما أغضب صديقي القديم فرد عليّ ردًا قاسيًا في جريدتهم.
نعم، نحن المثقفين لسنا مهيئين سيكولوجيًا ولا ثقافيًا لنكون شيوعيين محترفين. متمردون، نرجسيون، ولدينا وسواس من أي نوع من أنواع الالتزام. أتحدّث نافيًا صفة التعميم، فثمّة مثقفون كثر ملتزمون ويؤمنون بفكرة ثورية المثقف. أمّا أنا، فانتمائي فكري وشيوعيتي وجدانية، وهذا عائد إلى نشأتي في وسط يساري آسر.
ليس هذا كلّ شيء، فهناك التجربة المجنونة التي خضتها رفقة شعراء ومثقفين مجانين، ولكن دعوها لمقالة أخرى.
اقرأ/ي أيضًا: