إن أدخلنا عبارة "50 ألف طفل صومالي" في محركات البحث الإلكترونية، ستطالعنا نفس المعلومة مرارًا وتكرارًا "عن خمسين ألف طفل حياتهم مهددة بالموت جوعًا"، لسنوات متعددة قد يكون شهر شباط/فبراير الشهر الأكثر تكرارًا من بين شهورها، وكأنه الأنسب في نظر من يقوم بقرع دوري ومنتظم لناقوس الخطر من أجل حياة الخمسين ألف طفل صومالي، الذين لم يموتوا ولم يجدوا من يطعمهم منذ عقدين وحتى الآن!
الاقتصاد الوطني الصومالي، منذ القرن التاسع عشر، اعتمد إلى حدّ كبير على تصدير الإنتاج الحيواني
أذكر سنة ألفين ميلادية لمّا قمت بزيارة لرئيس الوزراء الصومالي حينها عمر عرته غالب، حين كان في ضيافة بلد عربي ليقوم بتقديم واجب التعازي والاحترام لرئيس ذلك البلد المتوفّى، وسألته عن مسألة "المجاعة" التي ضربت البلاد في النصف الأول من التسعينيات، أخبرني بأن المعاناة التي حدثت كانت مؤسفة، لكن المؤسف أيضًا طريقة "طرحها"، التي تمت لتكون مدخلًا لدول معينة حاولت استغلال اضطراب الأوضاع لتمرير أجندات معينة، لكنها فشلت وساقت البلد إلى الانحدار في فوضى يصعب إصلاحها!
اقرأ/ي أيضًا: الحاوية بلجيكية والفضيحة تونسية
بلاد الصومال في مجملها سهوب ومراعٍ، يمارس معظم سكانها حرف الرعي والزراعة البعلية البسيطة، ومع الموقع الجغرافي للبلاد على المحيط الهندي، وسلوك الرياح التجارية والتيارات المحيطية، فإن نصيبًا وافرًا من الأمطار يتجاوزها خلال فترة الـ"مانسون"، باتجاه الشمال الشرقي، ناهيك عن خضوع المناخ لدورات الخصب والجفاف المعروفة بالـ"نينيو" يستمر كل منها لسبع سنوات، ومع اتساع رقعة البلاد وقلة الكثافة السكانية مع الشكل الطولي للخريطة، فإنّه من المتعسّر إنجاز بنى تحتية تضمن استثمار المطر الهاطل، لخدمة المحاصيل البعيدة عن منطقة النهرين، إضافة إلى ضعف الإمكانيات المطلوبة لاستثمار الخزانات الجوفية الكبرى القادرة على توفير المياه بصورة دائمة للنشاط الزراعي، كل ذلك يجعل أعمال تربية المواشي في حالة من الجمود وعدم التطوّر رغم كبر القطعان المحلية، معرّضة إياها بشكل دائم لمخاطر الجفاف الناتج عن توالي تأخر الأمطار لسنوات متتابعة، بحيث تتكرر الفترات الحرجة التي يقل فيها مردود الإنتاج الزراعي والحيواني.
من الضروري معرفة أن الاقتصاد الوطني ومنذ القرن التاسع عشر، اعتمد إلى حدّ كبير على تصدير الإنتاج الحيواني، المتمثل بالقطعان الحية من الإبل والأبقار والماعز والأغنام إلى أسواق الجزيرة العربية، إلّا أن استمرارية التصدير تعرّضت مرارًا للتهديد بسبب قرارت حظر الاستيراد من الصومال، والتي أضرّت كثيرًا بالمستوى المعيشي في البلاد، وحوّلت مئات الآلاف من الرعاة إلى عالات على روابطهم العائلية والعشائرية، وتحوّل المساعدات المتقطعة التي تصل إليهم إلى مصدر أساسي لأمنهم الغذائي، بصورة هددت استقلاليتهم وأضعفت كبرياءهم القديم كمنتجين لمصدر الدخل الرئيسي في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: هل التدخل العسكري ضرورة حتمية في ليبيا؟
ومع اعتياد الرعاة وعمّال المياومة الزراعيين، على الدعم الغذائي القادم من المنظمات والهيئات، أصبح يتصادف موسم الحصاد في سنوات عديدة مع وصول شحنات هائلة من المساعدات الغذائية، لأصناف من الحبوب والمواد الغذائية التي يتم إنتاجها محليًا بحيث تفيض عن الاستهلاك، بما يؤدي إلى تأخر المزارعين في تصريف منتجاتهم، أو اضطرارهم لخفض أسعارها بما يجعل العمل الزراعي مصدرًا للخسارة بعد أن كان نشاطًا مربحًا، ومما يفاقم المشكلة ظاهرة الفساد التي يمارسها مسؤولون حكوميون مع القائمين على أعمال المنظمات، حيث تتسرب المساعدات إلى الأسواق بأسعار شديدة الزهد!
بقيت الصومال مضربًا للمثل في الجوع لعقدين، بحيث أصبحت تلك الصفة أول ما يخطر ببال من يقرأ اسم البلد
وليزداد الأمر سوءًا على المزارعين، وفي محاولة منهم لتقليل كلف الإنتاج لمواجهة تدهور الأسعار، يلجأ المزارعون إلى منظمات وهيئات دولية، لتمدّهم بالبذور والأسمدة والمبيدات، التي تكون من نوعيات رديئة أو قليلة المفعول أو منتهية الصلاحية، بحيث يتضرر المحصول، ويتناقص الإنتاج هذا في حال لم تنتشر الآفات وتتعرض التربة للتدهور وتراجع الإنتاجية.
لقد بقيت بلاد الصومال مضربًا للمثل في الجوع والمعاناة، لعقدين طويلين بحيث أصبحتا هاتان الصفتان ومرادفاتهما أول ما يخطر ببال من يقرأ اسم "الصومال" أو يسمع به، لكن تلك الحالة المدمرة للمعنويات، تشمل اليوم عددًا من الدول والشعوب، لأنها دخلت مرحلة من الاضطراب، غدا الدفاع عن اسمها أمرًا ثانويًا بالنظر لما تمرّ به من صراعات وتناحر، لذا لن يكون مستغربًا في القريب العاجل، أن تدخل أسماء بلدان كـ"سوريا" و"اليمن" و"ليبيا" و"العراق" في تلك القائمة، بديلًا عن الصومال وأفغانستان ليستمر المنتفعون من التسوّل بأسماء الشعوب والبلدان في تحقيق مكاسبهم، على حساب حقيقة العمل الإغاثي وغاياته!
اقرأ/ي أيضًا: