من أهم ما امتازت به حضارة بلاد الرافدين من معتقدات ورؤى، هو معتقدها عن الحياة التي رأت أنها حياة قاسية لا يمكن الاطمئنان لها أو توقع مآلاتها، انطلاقًا من أن الإنسان دائمًا ما يواجه المعرقلات التي تجعل حياته صعبة وقاسية، ما يضطره إلى أن يبذل جهودًا كبيرة حتى يتمكن من النجاة وتسيير أمور حياته، ففي نظره أن القوى الكونية هي من تتحكم به وبحياته، وهي من تدفعه لأن يأخذ مسارات متناسبة مع قدراته وإمكاناته، لأنه إن لم يفعل ذلك، فإنّ مصيره الهلاك والدمار، وهذا ما دفع البعض للقول إنّ الإنسان الرافديني آمن بعدم قدرته على تغيير واقعه أو تعديل مجرى حياته، ما جعله مستسلمًا لواقعه، رافضًا للثورة على من يحكمه ويدير دفة حياته، وهذا برأي البعض يشابه نظرة حضارة بلاد النيل إلى العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والتي رأت أنها علاقة متينة و متجانسة، لأنّ الحاكم هو سليل الإله الذي منح بلاد النيل الخصب والنماء والثروة، ما جعلها مزدهرة ونابضة بالحياة، على خلاف جيرانها الذين يواجهون شظف العيش وقسوة الحياة من أثر الجوع والمرض وانعدام الأمن وما إلى ذلك، لذا رأت أن من الواجب تبجيل الحاكم وتقدير مكانته واحترام سلطته تعبيرًا عن الامتنان لهذا الواقع الذي تنعم في ظله بالأمان والاستقرار.
لكن هل هذه هي كل الحقيقة؟ أم أن هناك جزء مكمل لها لم يجر التطرق له، يمكنه أن يفسر نظرة بلاد الرافدين إلى مفهوم الحكم، وما يجب أن تكون عليه العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فبخلاف حضارة بلاد النيل التي لم تؤمن بمشروعية الثورة ضد الحاكم المقدس الذي منح البلاد الازدهار والاستقرار، نظرة بلاد الرافدين إلى محدودية قدرات البشر مقارنة بما يواجهونه من صعوبات وتحديات لم تدفعهم إلى تبني نهج الاستسلام، فمع أنهم كانوا يسعون دائمًا لتلافي أي عمل يضعهم في مواجهة مباشرة مع القوى التي تتحكم بهم وتسير حياتهم، إلا أنهم لم يمتنعوا عن المواجهة إذا ما رأوا أنها هي السبيل الوحيد لإنقاذهم من خطر محدق وحال بائس، وهذا ما وجدنا له صدى في أساطير بلاد الرافدين، عندما تمرد الآلهة على ما كانوا يعانونه من العمل المرهق الذي تفرضه عليهم الآلهة الكبار، فكان أن فرضوا على تلك الآلهة خلق بديل يؤدي ما كانوا يؤدونه من عمل، وكان هذا المخلوق هو الإنسان. أي أن الإنسان في فكر حضارة بلاد الرافدين يؤدي العمل الذي كانت تؤديه الآلهة، وهذا ما رأيناه أيضًا في الواقع السياسي لحضارة بلاد الرافدين، إذ واجهت أنظمة الحكم فيها ثورات عدة، ابتداءً من أول ثورة مذكورة في التاريخ، وهي ثورة شعب أوروك ضد جلجامش في بداية الألف الثالث قبل الميلاد، وصولًا إلى ثورات الكهنة وأتباعهم ضد حكم نابونائيد، آخر ملك بابلي في تاريخ حضارة بلاد الرافدين، على الرغم من اختلاف أسباب هذه الثورات ودوافعها وأهدافها.
ففكر حضارة بلاد الرافدين، وأن آمن بأن واقعه هو من صنع الآلهة، وأنه على الرغم من قسوته ومخاطره، هو أفضل من الفوضى التي تهدده في كل لحظة من حياته التي مصدرها القوى المنفلتة الكارهة للنظام المؤسس من قبل الآلهة، إلا أنه لم يلزم نفسه بالبقاء ساكنًا فيما إذا وجد نفسه مهددًا بالفناء والدمار الذي قد يكون من نتاج غضب الآلهة أو بسبب قوى الفوضى المتربصة به وبما أرسته الآلهة من نظام، ولأن الفناء والدمار ليس هو غاية الآلهة لحاجتها الماسة لوجود الإنسان، فإنّ هذا بنظره قد يعني أن السلطة قد حادت عن نهج الآلهة، وأنها لم تكن موفقة في خدمتها وإطاعة أوامرها، ما يجعل من واجب الإنسان تصحيح ذلك وبناء علاقة جديدة مع الآلهة تمكنه من البقاء، وفي الوقت نفسه يستمر في أداء واجباته تجاهها، أي كبديل لها فيما كانت تؤديه من عمل، ما يعني أنه لم يعدم السبل التي تتيح له تطوير رؤاه، بما لا يتناقض مع السمات العامة لفكر حضارة بلاد الرافدين.