نيّة عمرها أكثر من عقدين تقترب من التحقق خلال 10 أيام، عندما ستحط طائرة يوم الجمعة المصادف 5 آذار/مارس المقبل، في بغداد حاملة على متنها رأس الفاتيكان البابا فرنسيس، محققًا هدف ونيّة سلفه الراحل، البابا يوحنا بولس الثاني، الذي فشلت خطته لزيارة العراق في عام 2000، لتتحقق الحادثة التاريخية الأولى من نوعها، على يد البابا فرنسيس.
أهميّة الزيارة
تستمد الزيارة أهمية تاريخية، من كونها اول زيارة بابوية من الفاتيكان إلى العراق، كما أنها أول خروج من الفاتيكان للبابا فرانسيس الأب الروحي الأكبر لجميع المسيح الكاثوليك في العالم، منذ ظهور جائحة كورونا عالميًا في عام 2019، بالإضافة إلى ما ستشهده الزيارة من جوانب سياسية ودينية وروحانية مختلفة، حيث يلتقي البابا بالحكومة العراقية المتمثلة بمصطفى الكاظمي، وزيارته إلى أماكن تاريخية يمثل نقطة مشتركة بين الديانات الأكبر في العالم أجمع، متمثلة بالديانات السماوية الإبراهيمية، وذلك من خلال زيارة الموقع الذي يُعتقد أنه مكان ولادة أبي الأنبياء النبي إبراهيم الخليل في مدينة أور بمحافظة ذي قار جنوبي العراق، فضلًا عن لقاء الحبر الأعظم بابا الفاتيكان بالمرجع الأعلى وزعيم الحوزة العلمية في النجف الأشرف والأب الروحي للعدد الأكبر من الشيعة حول العالم، علي السيستاني.
التناول السياسي في العراق بعيد عن الواقع
تناولت الجهات والشخصيات العراقية، فضلًا عن الصحافة العالمية، الحدث التاريخي المرتقب باهتمام بالغ، وبينما نُوقِش الهدف الأبرز من هذه الزيارة، تركز الحديث عن كون هذه الخطوة تأتي لـ"تعزز الحوار والتآخي بين الأديان" خصوصًا فيما يتعلق باللقاء مع المرجع علي السيستاني، وتوقيع وثيقة سلام، أسوة بالوثيقة الموقعة بين الفاتيكان وشيخ الأزهر في مصر الإمام أحمد الطيب.
يستبعد الأكاديمي في علم الأديان رزاق جليل أن يكون لزيارة البابا أي أثر على الصعيد السياسي أو تقنين العنف في البلاد والمنطقة
إلا أن الحديث عن توقيع وثيقة سلام، تم نفيه فيما بعد من قبل مكتب المرجع السيستاني فضلًا عن وزارة الخارجية العراقية، واتساقًا مع هذا النفي، الذي يقلل من أهمية توقيع "عقد سلام"، يتبادر إلى الأذهان الهدف المعلن من الزيارة والمتعلق بتعزيز "حوار الأديان والسلام"، وجدواه في العراق، حيث من المعروف أن العراق لا يشهد توترًا دينيًا وعقائديًا صريحًا بين المسلمين والمسيحيين، عدا ما لحق بالمسيحيين، كما لحق جميع الفئات العراقية بمختلف أديانها ومذاهبها من تنظيم "داعش" المتطرف، في شمال وغرب العراق.
اقرأ/ي أيضًا: الخارجية العراقية تكشف تفاصيل عن اللقاء المرتقب بين البابا والمرجع السيستاني
أما ما لحق المسيحيين من تهجير واستيلاء على الممتلكات في بغداد وجنوبي العراق، في السنوات التي تلت سقوط النظام السابق في 2003، فهي حالات لها علاقة بـ"اللصوصية"، واستثمار الفوضى وقوة السلاح للانتفاع على حساب الشرائح الضعيفة، ولا ارتباط مباشر لها بأسباب عقائدية ودينية، كما يرى مراقبون.
الزيارة "لا تهدئ" التوتر!
تطغى على كلمات وخطاب بابا الفاتيكان، وتعليقاته بشأن نيته زيارة العراق، أحاديث عن مايتعرض له العراقيون أجمع، وليس المسيحيين فقط، حيث حازت حوادث متعددة اهتمام البابا منها ماتعرض له المتظاهرون من أحداث عنف في احتجاجات تشرين، والانفجار الذي وقع في ساحة الطيران مطلع العام الجاري، فيما يرى الأكاديمي في علم الأديان رزاق جليل، أن "التأثير المباشر للشخصيات الدينية الكبرى لإحلال السلام، يكاد يكون لا يُذكر، وهو ما تعكسه بشكل واضح، وقائع الشارع العراقي بالرغم من وجود الإرادة والدعوات والمساعي من قبل المؤسسات الدينية المختلفة لرفع شعار السلام والتعايش".
ويضيف جليل في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "العنف والصراع مدفوع بأسباب مختلفة ومتنوعة ومحكومة أما بعقائد تؤسسها الدوائر الصغيرة لا المؤسسات الدينية الكبرى الصريحة، أو بتطلعات سياسية ومصالح فئوية أو مصالح كبرى اقليمية تُضعف تأثيرات المؤسسات الدينية الصريحة الكبرى التي بدأ نفوذها يقتصر على العبادات".
ويستبعد جليل أن "يكون لزيارة البابا أي أثر على الصعيد السياسي أو تقنين العنف في البلاد والمنطقة"، وهو ما يعاكس أحاديث الأطراف السياسية في العراق التي تروّج لآثار محتملة على السلم الاجتماعي من هذه الزيارة.
تعويل مجتمعي آخر على الزيارة
يذهب التعويل المجتمعي في العراق على زيارة البابا، إلى منطقة أخرى يبدو أنها خارج الحسابات السياسية، حيث تراهن أطراف شعبية وأكاديمية، ولا سيما تلك المهتمة بالآثار والسياحة الدينية، على إمكانية أن تفتح زيارة البابا إلى زقورة أور وموضع ولادة النبي إبراهيم، فضلًا عن كاتدرائية سيّدة النجاة وكاتدرائية مار يوسف في بغداد وكنيسة الطاهرة الكبرى في قرقوش بمدينة الموصل، وهي كنائس تاريخية وأثرية يصل عمرها لآلاف السنين، وهو ما قد يفتح الباب على سياحة دينية لجميع المسيحيين حول العالم ليكون العراق قبلة للسياحة الدينية للأديان الأخرى توازي حراك السياحية الدينية للمراقد الشيعية.
رأى الكاتب الإيراني مهدي نصيري أن استقبال السيستاني لزعيم الكاثوليك بالعالم في النجف يعني تقدم حوزة النجف التقليدية على حوزة قم الحديثة في فهم الأولويات العالمية
ويقول الباحث في الآثار عامر عبد الرزاق، في حديث لـ"ألترا عراق" إن "الزيارة إذا نجحت ستكون الزقورة قبلة لكل العالم، يزورها الملايين سنويًا من كل أنحاء العالم وتكون من أهم المراكز السياحية الدينية والحضارية في العراق"، مبينًا أنها "ستنتج مردودًا ماليًا كبيرًا لمحافظة ذي قار وتنشط الفنادق والمطاعم والأسواق وتشغل آلاف الشباب".
البابا والسيستاني.. أثر جديد لتقدم حوزة النجف
من التفاصيل الهامة التي شغلت العديد بعيدًا عن الهدف المعلن للزيارة وتعزيز حوار الأديان، اعتبر مراقبون أن اختيار البابا لزيارة النجف والمرجع السيستاني يعطي بعدًا كبيرًا عن أهمية النجف وثقل الحوزة العلمية فيها كممثل رسمي عن المذهب الشيعي في العالم والعراق، فيما يأتي بالمقابل، غياب واضح لأي تعليق من الكتل والشخصيات والجهات السياسية والدينية المقربة من إيران، حول زيارة البابا.
اقرأ/ي أيضًا: تصريح من الفاتيكان بعد جولة في النجف وأور تحضيرًا لزيارة البابا
وتعليقًا على كلمات لرئيس أساقفة الفاتيكان قال فيها إن "بابا الفاتيكان متشوقٌ لزيارة العراق، والنجف تحديدًا، ولقاء السيستاني"، يقول الأكاديمي والتدريسي في جامعة بغداد خالد خليل هويدي، في تدوينة على مواقع التواصل الإجتماعي إن "هذه الزيارة وهذه الكلمات ربما توحي بأن النجف هي الممثل الرسمي للشيعة، وهو أمرٌ قد لا يرغب فيه الآخرون، ممن حاول أو يحاول إضعاف دور النجف بأنها أم قرى التشيع"، في إشارة إلى مدينة قم الإيرانية ومرجعية المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، علي خامنئي، وهو ما رآه الكاتب والاعلامي الإيراني، مهدي نصيري، في تغريدة تابعها "ألترا عراق"، أن "استقبال آية الله السيستاني لزعيم الكاثوليك بالعالم في النجف يعني تقدم حوزة النجف التقليدية على حوزة قم الحديثة في فهم الأولويات العالمية، واستثمار الدبلوماسية الدينية".
هل يزعج المقربين من إيران؟
بالتزامن مع ما تركته خطة اللقاء بين بابا الفاتيكان وزعيم حوزة النجف، من أثر واضح لدى محبي وأتباع المرجع السيستاني، يظهر بوضوح كبير غياب تعليق الأطراف العراقية المقربة من إيران حول الزيارة التاريخية، بالرغم من أن الحدث حاز على اهتمام وتداول مختلف الجهات السياسية والشعبية والأوساط الإعلامية عراقيًا وعالميًا، وتعيد هذه الملاحظة إلى الأذهان تغريدة زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، الذي كشف وبشكل مفاجئ عن وجود "رفض" لزيارة البابا إلى النجف، دون أن يكشف المزيد من التفاصيل بهذا الشأن.
وقال الصدر في تغريدة على موقع "تويتر": "وصلني أن هناك بعض المعارضين لزيارة البابا إلى العراق"، مضيفًا أن "الانفتاح على الأديان أمر مستحسن وزيارته للعراق مرحب بها وقلوبنا قبل أبوابنا مفتوحة له"، ويشير الصدر إلى أن "النجف عاصمة الأديان، فمرحبا به كمحب للسلام"، ووفقًا لمتابعين، فإن هذه التغريدة قد تأتي متسقة مع غياب تعليق الأطراف السياسية المقربة من إيران حول هذه الزيارة، وما إذا كانت هي الأطراف المقصودة في تغريدة الصدر والرافضة لزيارة البابا.
ويقول رئيس مركز التفكير السياسي الدكتور إحسان الشمري في حديث لـ"ألترا عراق"، إن "هذه الأطراف قد تكون تأخذ الزيارة من باب الصراع الديني رغم أنه غير موجود على مستوى الأرض العراقية بين المسلمين والمسيحيين، وإن كانت قد حدثت في فترات فأنها لا تمثل توجهًا ونهجًا بالنسبة للمسلمين في العراق بمختلف عناوينهم ومذاهبهم".
ويعتقد الشمري أنها تأتي في إطار "التشكيك غير المسؤول بوجود البابا في العراق، ولا ترتقي لمستوى النضج الديني والوطني والإنساني، فالبابا هو رسول سلام أكثر من كونه يمثل دينًا معينًا، ويحاول تقديم المزيد من الدعم للمجتمع العراقي".
ويعتبر الشمري أن "الأطراف القريبة من ايران لديها سبب مركب قد يقف وراء انزعاجهم من الزيارة، يتمثل السبب الأول بالجانب الديني من طرف، والآخر يرتبط بقضية الأيديولوجية السياسية واعتقادات وجود محاولة للتمدد المسيحي في الداخل أو العالم وهذا غير دقيق"، مشيرًا إلى أنه "لهذا يبدو موقف الصدر ينطلق باتجاه محاولة قطع الطريق أمام المتاجرين بالدين ومحاولة اتخاذ موقف سياسي تجاه هذه الزيارة، وأن الدعم الكبير من المكونات السياسية والمجتمعية والمقبولية لهذه الزيارة ستقوض مساعي أصدار أي مواقف من هذه الأطراف المتشددة وتضعهم في مزيد من انعدام الثقة بهم".
اقرأ/ي أيضًا:
موعد مع السيستاني.. الفاتيكان يعلن برنامج زيارة البابا إلى العراق
الكاظمي يغازل السيستاني ويستبق زيارة البابا بتوجيه حول المسيحيين