تشترك الفاشية والنازية والستالينية في أنها قدمت إلى الفرد المنقسم ملاذًا جديدًا وآمنًا. وهذه الأنظمة هي بلوغ المنتهى في الاغتراب. ففيها يجري جعل الفرد يشعر بالعجز وعدم الأهمية، ولكن يتم تعليمه أن يسقط كل قدراته على شخص القائد.. فيهرب من حريته إلى وثنية جديدة. إيريك فروم، المجتمع السوي.
باستثناء القلة القليلة، أفترض أن الكثير ممن غادروا المنظومة الدينية لم تكن نتيجة لرحلة بحث وتأمل واختبار مضنية، بل ردة فعل قاسية لانعدام النموذج. لم يحقق لهم الخطاب الديني، بشقه السياسي، نموذجًا مقنعًا فوقعوا في دائرة الإحباط والتذمر والعدمية. يمكن القول إن هذا النمط من المتذمرين لو وجدوا دولة مؤسسات عصرية تمنحهم هامشًا من الحرية والعدالة لتضاءلت نسبة المتذمرين. وإلّا بماذا نفسر نظامًا قائمًا على العنصرية الدينية مثل إسرائيل يحظى بقبول وإعجاب من قبل الكثير في منطقتنا، ومواقع التواصل الاجتماعي شاهد على ذلك؟ إنه النموذج! ذلك أن الناس، على وجه العموم، لا يهمها عقائد الآخرين، طالما لا تقف هذه الأخيرة حجرة عثرة بوجه الحرية والرفاه. إن الناس في البلدان الديمقراطية العلمانية لا تهتم كثيرًا بالقضايا المفصلية والأسئلة الكبرى، ولا يعنيها أمر السياسات العالمية إذا ما تعارض ذلك مع سعادتها الشخصية. لكن حين تفشل أنظمتها في الإيفاء بوعودها فسوف تتحول هذه الجموع البشرية إلى جيوش كافرة ومحاربة ومعاول هدم ضد هذه الأنظمة.
عموم الناس لا يهمها أكثر من حريتها ورفاهها الشخصي. لكن تتجاهل السلطة القائمة كل هذه الحقائق، محاولًة حصر المأساة بالمؤامرة
حينما يفقد الناس سعادتهم سيعلنون العداء لثقافتهم الأم، فهي أقرب نقاطهم المرجعية، ويميل العراقيون إلى شتم ذويهم في حالات العجز والفشل والإحباط. وفي ثقافتنا يحتل الدين رأس الهرم، وخصوصًا في شقه السياسي كما قلنا، ويشكل ثقافة مهيمنة، ويتمتع خطابه بالسعة والشمول، ويدخل في تفاصيلنا اليومية. لذلك تعمد بعض الفئات المتطلعة إلى حياة أفضل بالتمسك بأي نموذج بديل عن الثقافة المهيمنة التي لم توفر لهم هامشًا من الحرية، في حين يميل الأعم الأغلب للارتماء في حضن الهويات الفرعية كبديل عن الدولة المفقودة. خلاصة الموضوع: متى ما شعر الناس أنهم بمأمن عن المساءلة والنبذ الاجتماعي سيكفون عن التأثر بنماذج أخرى. والمفارقة الغريبة أن الجماهير المؤمنة، تتمسك بمنطق الأغلبية الديمقراطية لتسويغ منطقها السياسي، في الوقت الذي تتناسى فكرة حقوق الأقلية.
اقرأ/ي أيضًا: آفة "الفُگر" تنخر الأخلاق والعقل: التطبيع انموذجًا
على أي حال، لا يمكن تجاهل حقيقة مفادها: أن الخراب العراقي أكبر من الدين، فتاريخ العراق السياسي مليء بالدم والدموع؛ من اليساريين، والقوميين، فالإسلاميين في وقتنا الراهن. غير إني ركزت على بعض الفئات الاجتماعية المعجبة بالنموذج الإسرائيلي رغم عنصريته الدينية، حتى لو كانت هذه الفئات خارج المنظومة الدينية، لكنّهم مع هذا لا يكفون عن الإعجاب بالنموذج الإسرائيلي العنصري، فيبدو ثمة ما يثير الإعجاب في هذا النظام العنصري، ليصبح نموذجًا ملهمًا لهذه الفئات. ولو قُدّر للعراق أن يبني دولة قوية ذات مؤسسات مهنية، لكنّها دولة طائفية، مثلًا، فأغلب الظن سوف لا نرى تذمرًا وهجومًا على التنظيمات الإسلامية، طالما تضمن هذه الأخيرة رفاه الناس وحريتهم. ولعلنا لا نجاوب الصواب أن قلنا: هنا مكمن العلة!
إن إعجاب بعض الناس بالنموذج الإسرائيلي يفسر لنا وضعًا مأساويًا تتجاهله الأنظمة العربية على الدوام؛ أنه مهما كان شعار الدولة، دينيًا كان أم دنيويًا، عنصريًا كان أو معتدلًا، طالما يضمن الحرية لعموم الناس في الفضاء العام، فستكف الناس عن ردود الأفعال القاسية تجاه الدين، لينحصر نقد الخطاب الديني والسلطوية الدينية، وحدود الدولة ونظامها المفترض، على يد الباحثين والمفكرين والمثقفين، ذلك أن عموم الناس لا يهمها أكثر من حريتها ورفاهها الشخصي. لكن تتجاهل السلطة القائمة كل هذه الحقائق، محاولًة حصر المأساة بالمؤامرة! فيتحول كل خرابنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي بفعل مؤامرة خارجية.
لذلك لا تكف السلطة عن هذه الرطانة التي حفظناها عن ظهر قلب، وهي اتهام كل فئة اجتماعية تسعى للتغيير بالارتباط بأجندة خارجية. طيب، هذا دليل إضافي على أن هذه السلطة مثقوبة من كل الجهات، وأن هناك أسباب عدة لتكاثر الطابور الخامس في بلداننا. وهذه مقدمة تصلح لإدانة نظامنا الطائفي الفاسد على أنه لا يحسن إدارة مرافق الدولة الحيوية. ثمة خلل بنيوي تصادق عليه السلطة، وهو أن الشعب العراقي لا يتمتع بأدنى متطلبات الكرامة البشرية. وعلى سلطة الخضراء، إن كانت صادقة في مسعاها أن تسأل نفسها هذا السؤال الغائب: لماذا يبدو الفرد العراقي سريع التقبل والانجرار خلف الدعايات الخارجية، إن اتفقنا طبعًا كل ما يحدث هو من الخارج؟ وما هو البرنامج الأنسب لكي يكف الشعب عن التأثر بالنماذج الأخرى؟ ماهي البدائل المتوفرة لسكنة الأحياء المتهالكة والتي لا تصلح للعيش البشري، علمًا أن السلطة ساهمت بالسكوت عنها بدلًا من توفير السكن اللائق؟!
وبما أن السلطة ليست معنية بهذه الأسئلة، وبما أن التنظيمات الإسلامية لديها من الجماهير المستسلمة للأمر الواقع ما يضمن ديموتها والدفاع المستميت عنها، وبما أنهم أعداد غفيرة (يمكنهم أن يِشيّدوا ناطحة سحاب بوقت قياسي إن أرادوا ذلك لولا أنهم مقتنعون بالحال!) فإنهم معنيون فقط بهذا السؤال: المشكلة ليست بالإسلام، المشكلة بالمسلمين. كما لو أن هناك معركة ضارية ضد الإسلام! المشكلة هي فقدان النموذج، وبالتحديد فشل القائمين على الإيفاء بوعودهم ببناء الدولة، فحينما يستلهم الناس نماذج أخرى تجري بالضد من ثقافتهم، ليس لأنهم أعداء مدسوسون، بل أن العدو الحقيقي هو السلطة التي لا تحسن ترجمة النموذج على أرض الواقع، وتشوه كل القيم النبيلة. وأظن السؤال المفتاحي لكل مشاكلنا هو كالتالي: لماذا نحن فاشلون؟!
اقرأ/ي أيضًا: