الترا عراق - فريق التحرير
لم يكن يمكن أن يمر مشهد كهذا بسلام قبل أحداث تشرين الأول/أكتوبر الدامية، شاب يقف وسط مستشفى بين قتلى التظاهرات، ويهتف ضد كبير مراجع الشيعة علي السيستاني، مشهد كهذا كان يُمكن أن يجعل المتحدث فريسة لمئات المعترضين الذين قد يشتبكون معه أو يمنعونه من إطلاق العبارات المسيئة للسيستاني، المرجع الذي كان منذ العام 2003 إلى ما قبل الأحداث الماضية، المرجع الأكثر شعبية ومقبولية بين شيعة العراق وحتى غيرهم.
تراجعت شعبية ومقبولية السيستاني تراكميًا منذ موجة احتجاجات 2011
في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، تجمع العشرات في ساحة التحرير وسط بغداد، لم تمض ساعات حتى فتحت القوات الأمنية النيران بشكل مفاجئ على الشبان، صحفيون كثر كانوا وسط المحتجين، في الميدان الذي يقع قرب أغلب مقار المؤسسات الإعلامية، الصحفيون أبدوا دهشتهم من قرار المواجهة بالرصاص الحي، فالأعداد وفقًا للمشاهد المصورة وشهادات الصحفيين لم تكن لتشكل خطرًا على القوات الأمنية أو حتى المؤسسات المجاورة، يقولون إنهم لم يفهموا حتى الآن سبب القرار الأول بفتح النار، ولا سبب الإصرار على ذلك.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين.. مشاهد مروعة من "حمام الدماء" ومرحلة جديدة من القمع!
بدأ عداد الضحايا بقتيلين في بغداد، ثم تدحرجت كرة الدم. بحلول مساء الخميس 3 تشرين الأول/أكتوبر، وصل عدد الضحايا إلى 30 قتيلاً، في بغداد وذي قار التي انضمت هي الأخرى للاحتجاجات مع عدد من المحافظات الوسطى والجنوبية.
"السيستاني سيقول كلمته"
بالنسبة لأتباع السيستاني والغالبية الساحقة من المراقبين، كان هناك شبه يقين، بأن المرجع سيتدخل عبر نافذته المعهودة، خطبة الجمعة في كربلاء، خاصة وأن مساء الخميس شهد للمرة الأولى تداول شائعات عن وجود قناصين حول ساحات التظاهر، يستهدفون المتظاهرين في الرأس، وهي الأنباء التي بقيت بين أخذ ورد، حتى تسربت في وقت لاحق مشاهد مصورة توثق لحظات سقوط المتظاهرين بنيران القناصة.
لكن خطبة السيستاني جاءت هي الأخرى "صادمة" كما كان قرار فتح النار على المحتجين. قرأ أحمد الصافي ممثل المرجع الأعلى رسالة من السيستاني على المصلين، وفي الأثناء، كان بالإمكان الاستماع لصدى الخطبة وهي تنطلق من المقاهي الشعبية القليلة التي فتحت أبوابها في ساحة الوثبة بالقرب من مركز الاحتجاجات في بغداد، وكذلك من سماعات المذياع في السيارات المعدودة التي كانت تجوب شوارع العاصمة لنقل الوقود أو المواد الغذائية كاسرة قرار عبدالمهدي بحظر التجوال. وبإنصات تام، استمع المحتجون وأولئك المحايدون إلى الخطبة المُنتظرة، وتدريجيًا بدا أنها شكلت خيبة جديدة لمئات الآلاف الذين كانوا ينتظرون إدانة واضحة للمجزرة التي سقط فيها 30 شخصًا خلال 72 ساعة.
"مساواة غير عادلة"
بدأت رسالة السيستاني بعبارة غير مفهومة الدلائل، إذ قال إن "ما جرى من سقوط ضحايا خلال الاحتجاجات يشبه ما حصل في سنوات سابقة"، اكتفى بمفردتي إدانة قائلًا إن سقوط الضحايا "مرفوض ومدان" ثم مضى مساويًا بين عشرات الضحايا من المتظاهرين الذين سقطوا بالرصاص الحي ونيران القناصة، ومصابي القوات الأمنية الذين تعرضوا للإصابة بالحجارة، وتعرض أحدهم لحروق بنيران زجاجة حارقة بعد نقل جثث الدفعة الأولى من قتلى متظاهري ساحة التحرير.
وأكمل ملقيًا اللوم على البرلمان، والكتل الكبيرة، ومتقدمًا بمقترح "تشكيل لجنة"، وهي العبارة التي تستفز أغلب أوساط العراقيين، لأنها تعني بشكل أو بآخر تسويفًا مفتوحًا، وفضلًا عن هذا، فإن الرجل الذي يقول جميع رؤساء الحكومة أنهم يدينون له بالطاعة، يعتمد سياسة "باردة الأعصاب" في التعامل مع الكوارث الإنسانية التي تحل بالبلاد مهما كانت فداحتها، فهو سينتظر أسبوعًا كاملًا حتى حلول يوم الجمعة، الموعد الثابت لحديثه، وعلى سبيل المثال، فإن حادثة مقتل نحو 16 متظاهرًا في بغداد وحدها مساء الجمعة 4 تشرين الأول/أكتوبر لن تحظى بتعليق المرجع إلا يوم الجمعة من الأسبوع التالي.
جاءت خطبة السيستاني "صادمة" كما كان قرار فتح النار على المحتجين
تقول الشخصيات الإعلامية التي تتولى الدفاع عن مواقع السيستاني، إن طريقته تلك دليل على الحكمة والتوازن وعدم الانفعال. مفردات رسالة السيستاني لم ترقَ إلى مستوى وقوع مذبحة أثناء كتابة رسالته، كما أنها رسّخت فكرة حاول إعلام السلطة الإصرار على بثها، وهي أن ما يجري هو اشتباك بين طرفين، وأن القوات الأمنية تدافع عن نفسها وعن المقار الحكومية، رغم أن جميع المشاهد التي تم تسريبها قبل قطع خدمة الانترنت، تُظهر صب النيران على تجمعات من المتظاهرين في ساحات عامة، ولم ينجح إعلام السلطة حتى الآن بكشف صورة واحدة لمتظاهر يحمل سلاحًا بين الجموع.
لم تمض ساعات، بعد الخطبة الأخيرة، حتى استأنف المحتجون تظاهراتهم في الموعد المقرر، الرابعة مساءً، وهو الموعد الذي قال ناشطون انه اختير ليكون بعد ساعة من نهاية الدوام الرسمي للموظفين، وتفاديًا لتعطيل مرور مركباتهم. ومع استئناف الاحتجاجات، عادت النيران من جديد، لكن هذه المرة في مناطق مبكرة جدًا عن ساحة التحرير، الهدف الذي فتحت عناصر القوات الأمنية نيران أسلحتها بلا تردد لمنع المتظاهرين من الوصول إليها طيلة 4 أيام.
فبالقرب من تقاطع الجملة العصبية (1 كم) شرق ساحة التحرير، وثقت عدسات المتظاهرين مشاهد تساقط الضحايا بنيران قناص لم يتمكن أحد من تحديد مقره، استمر باصطياد الجميع في معركة غير متكافئة، وبحلول منتصف ليل الجمعة بدا أن يوم إطلاق رسالة السيستاني، كان الأكثر دموية في بغداد، حيث شهد ظهور القناصين بشكل علني اعترفت به لاحقًا خلية الإعلام الأمني الحكومية، وتحدث مصدر طبي عن 16 قتيلًا في مستشفى واحد فقط، هو مستشفى الكندي، جلهم سقطوا برصاصات قناص في الرأس.
التزامن الشديد بين رسالة المرجعية التي وُصفت بأنها شديدة الاسترخاء، وأحداث الساعات التالية، اعتبره هذا المتظاهر الذي يظهر بين الجثث في ثلاجة الموتى "ضوءًا أخضر منحته مرجعية السيستاني" لتصفية المحتجين.
"المرجع الضرورة".. ومرشحه!
وُصف السيستاني خلال السنوات الماضية بأنه "شخصية ضرورية" بالنسبة للوطنيين العراقيين، وبالاعتماد على التنافس القديم بين مرجعيتي الشيعة في النجف العراقية، وقم الإيرانية، اختارت أوساط عديدة تناهض النفوذ الإيراني في العراق -من بينهم علمانيون- الانحياز للسيستاني، وعلاوةً على ذلك، يتبع غالبية شيعة العراق اليوم السيستاني، لكن شعبيته تلقت طعنات متكررة، خلال الأسابيع الماضية، بل ومنذ تولي عبدالمهدي زمام السلطة.
تلقت شعبية السيستاني طعنات متكررة، خلال الأسابيع الماضية، بل ومنذ تولي عبدالمهدي زمام السلطة
وصل عبدالمهدي إلى منصبه مشفوعًا بحزمة شائعات استمرت أكثر من شهرين، تحدثت عن دعم السيستاني ونجله محمد رضا لترشيح عبد المهدي رئيسًا للوزراء، في وقت لاحق، قال حامد الخفاف، الذي يوصف بأنه أحد المقربين القلائل من السيستاني، إن ما فعله الأخير في ملف رئيس الوزراء، هو عدم الاعتراض فقط.
تصدعات تتراكم
بالنسبة للرأي العام الشيعي، كان صعود "رئيس وزراء محاطًا بأنباء مباركة المرجعية" تجربة جديدة، أثارت آمال الكثيرين لخوضها، لكن خلال الأشهر اللاحقة لتوليه، ومع تعامل عبدالمهدي الذي وُصف بـ "المتراخي" مع ملفات رئيسة كمكافحة الفساد، وانهاء محاصصة مناصب الدولة، بدأت أصابع اللوم تتجه إلى السيستاني باعتباره مَن مرر تولي عبدالمهدي رئاسة الحكومة دون إعلان "كتلة برلمانية أكبر" تتولى ترشيحه، حيث وصل رئيس الوزراء إلى منصبه باتفاق ضمني بين قوتين (الفتح المقربة من إيران وسائرون التابعة لرجل الدين مقتدى الصدر) دون اعلان التحالف بينهما كما يشترط الدستور.
في وقت لاحق، أثار تقرير تلفزيوني بثته قناة الحرة الأمريكية وأعده صحفي عراقي مغترب (معن الجيزاني) صدمة غير مسبوقة، حين تحدث علنًا عن ما كان يتم تداوله همسًا، فالتقرير تحدث عن "جانب من استيلاء المؤسسات الدينية التابعة للسيستاني على مشاريع اقتصادية ضخمة، تقدر أصولها بمليارات الدولارات، دون أي إمكانية للرقابة الحكومية عليها"، كما سلط الضوء على قدرة الشركات التابعة للسيستاني على احتكار المناقصات الحكومية، والتقرير، رغم أنه أثار سلسلة من الاستنكارات على لسان نواب في البرلمان العراقي، والمسؤولين العراقيين، انتهت بإغلاق مكتب قناة الحرة في بغداد، إلا أنه ساهم، كما يرى مراقبون، بـ "تصدع" العلاقة بين السيستاني واتباعه الذين كانوا يعتبرونه رمزًا للقدسية والنزاهة والزهد ونكران الذات، وزعيمًا فوق الشبهات.
اقرأ/ي أيضًا: قصة من "ثلاجة الصدر".. رصاص السلطة في رأس "المقاتل المحتج"!
لم يكن ينقص العلاقة بين القاعدة الشعبية وزعيمها، إلا الأحداث الأخيرة، التي ظهر فيها السيستاني، متجاهلًا تحميل القائد العام للقوات المسلحة، الذي يُتهم بدعم ترشحه، المسؤولية عن مقتل عشرات المحتجين، ومُوجهًا اللوم إلى مجموعة واسعة من الجهات.
لماذا "لا يتفاعل" السيستاني؟
يُمكن اعتبار قضية مصير السيستاني ومدى نفوذه في العراق، مسألة بالغة التعقيد، فبينما تعتبره أوساط كثيرة، قوة موازية تساهم في إيقاف "التمدد الإيراني في البلاد"، يتهمه آخرون بالشراكة مع فصائل المقاومة الشيعية -المرتبطة بالجناح الثوري في إيران- بتقاسم النفوذ في العراق، لكن تفسيرات عديدة ظهرت حول ما دفع الرجل إلى عدم إظهار مستوى مناسب من التفاعل مع الأحداث الدامية، منها أن المرجع السيستاني ولتقدمه في العمر (89 عامًا)، لا يُباشر المواقف بنفسه، بل يدير أبرز الملفات، نجلُه محمد رضا، الشاب الذي يحاول التركيز على تعزيز علاقات سياسية واقتصادية وطيدة، تسهم باستمرار توسع الشركات التابعة للمراقد الدينية التي ذُكرت في التقرير السابق، والتي اقتحمت عالم التجارة منذ العام 2006 على الأقل، وهيمنت على قطاعات زراعية وتجارية وصناعية واسعة كمصانع المكيفات إلى المواد الغذائية والخرسانة المسلحة وغيرها.
بينما تذهب تفسيرات أخرى إلى أن مراكز السلطة الشيعية صنفت التظاهرات الأخيرة كواحدة من أخطر التحركات الشعبية، لعدة أسباب، منها أن التظاهرات رفعت شعار إسقاط النظام، وأنها انطلقت من مناطق المكون الشيعي الفقيرة، الخزان البشري الرئيس للقوات التي طردت تنظيم "داعش" من الأراضي العراقية، ما سيعني استحالة ربط أولئك المتظاهرين بالحركات الإرهابية، وبالتالي فهي تكتسب "الشرعية الطائفية" الكافية للاستمرار والجرأة ورفع سقوف المطالب، فضلًا عن أنها تظاهرات بلا قيادات بارزة يُمكن تقويضها أو التفاهم معها.
وأعلنت السلطات منذ صباح الاثنين 7 تشرين الأول/أكتوبر انهاء "حالات الشغب"، كما توعد رئيس جهاز الأمن الوطني فالح الفياض "المتآمرين بالقصاص"، فيما توقفت أغلب التظاهرات التي كانت تتدفق إلى ساحة التحرير، بعد انتشار قناصين على الطرق المؤدية إلى الساحة، حصدوا أرواح العديد من الشبان. قالت خلية الإعلام الأمني في بيان لها إنها لا تعرف هويتهم، وأنهم ليسوا تابعين للقوات الرسمية.
ونجحت القوات الأمنية في مهمتها بحصر نشاط المتظاهرين في مدينتهم (الصدر - 6 كم شرق ساحة التحرير) لكن الشبان واصلوا التساقط بنيران الرصاص الحي، حيث قُتل 15 شخصًا في احتجاجات مدينة الصدر (6 تشرين الأول) على الأقل في حصيلة غير رسمية، ليرد رئيس الوزراء بفتح تحقيق وإبدال القوات المسيطرة على المنطقة بأخرى.
ولم تمض ساعات على إعادة السلطات عمل خدمة الإنترنت حتى امتلأ الفضاء الإلكتروني بمئات الفيديوات من ساحات التظاهر، أثناء تعرضهم لرشقات النيران الحي، وهي مشاهد بقيت طي هواتف المحتجين، وكان من بينها مشهد آخر موجه ضد السيستاني، حيث يتعرض العشرات لإطلاق نار كثيف، بينما يهتف المصور ضد المرجعية.
الفيديو انتشر على نطاق واسع، وأثار جدلًا مع أكثر من 100 فيديو يوثق تعرض المتظاهرين لاطلاق الرصاص الحي، أو للحظات مقتل بعضهم، ما دفع السلطات إلى الاستمرار بحجب مواقع التواصل الاجتماعي والسماح بحزمة محدودة من خدمة الإنترنت بشكل متقطع، كما أطبق بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي دعوات لمقاطعة صلاة الجمعة بإمامة ممثلي المرجع الأعلى في كربلاء "نصرةً لضحايا الاحتجاجات".
اقرأ/ي أيضًا:
عبد المهدي "يعترف" بقتل المتظاهرين بعد "ليلة دامية" في بغداد
السلطة تحاصر الصحافيين في محاولة لإسكات الاحتجاجات العراقية!