تحتفي وسائل الإعلام الأوربية والأمريكية هذه الأيام بشخصية "هالك الإيراني" وتبرزه في أهم وسائلها الاعلامية ومنها صحيفة "الميترو" البريطانية واسعة الانتشار وموقع "هيئة الاذاعة البريطانية BBC" وموقع CNN الأمريكي على أنه الوحش القادم لمواجهة تنظيم داعش أخطر تنظيم إرهابي في القرن 21.
صور "هالك" الإيراني وغول داعش أو بلدوزرها، وأبو عزرائيل الشيعي ونمر النظام، تعطي قراءة واحدة في مآساة سورية
سجاد غريبي شاب إيراني عمره 24 عامًا فقط، لكنه يمتلك كتلة ضخمة من اللحم والشحم والعضلات، ورغم أنه يعاني من مشكلات صحية بسبب ضخامته وتحميل "كبده" ضغطًا كبيرًا بسبب ارتفاع وزنه، فإن ذلك ليس مهمًا في الماكينة الدعائية، فالمهم أننا أمام "بطل هوليودي خارق" كشخصية "هالك "الرجل الأخضر" الوحش البشري الذي اشتهر في السينما العالمية على أنه إنسان طبيعي ولكنه عندما يغضب ويريد أن ينتقم من الأعداء يصير وحشًا ضخمًا بلون أخضر قادر على تدمير أقوى أعدائه، هذا الشاب الشيعي الإيراني يعلن منذ العام 2014 عن رغبته في القتال في سوريا من أجل "الدفاع عن الحرم الزينبي" لكنه لم يحضر بل حضرت صورته الأسطورية فقط.
لا تزال شخصية غريبي "الشيعي الفارسي" إلى اليوم شخصية "دسمة" للاستهلاك الإعلامي، ويبدو أن إنتاج هذه الشخصية كان في مقابل شخصية "البلدورز" الداعشي "السني" الشهير أيضا بلقب "الغول الداعشي" الذي تغطي بنيته البدنية الضخمة كميات هائلة من اللحم والشحم ما جعله نجم في عالم الدعاية الداعشية ومتربعًا على عرشها في تقطيع الرؤوس بسيفه الضخم.
إذًا نحن باختصار أمام شخصيتين "هالك الإيراني الشيعي" و"بلدوزر داعش السنية"، شخصيتان تقول أشكالهما أنهما "خارجان عن القانون" أكثر منهما "مدافعين عن الحق" كما تسوق جماعاتهم.
قبل فترة أيضًا ظهر في سوريا "أبو عزارئيل الشيعي" قادمًا من العراق، اشتهر هذا الرجل بقدرته الفذة "على القتل وخطف الأرواح"، فهو حسب الماكينة الحربية الدعائية ليس ملاك الموت والدمار "عزرائيل" المعروف جيدًا في الديانات السماوية، بل هو "والد عزرائيل" ذاته الذي لا يكتفي بقتل ضحيته فقط بل يتفنن في تعذيبها وتقطيعها. هذا القاتل الفتاك ما أن أعلن عن قدومه لسوريا حتى بدأت القصص والأساطير تدور في مخيال جماعته، وكأنه بطل من أبطال الميثولوجيات القديمة وبالمقابل بدأت إشاعات تصفيته لحظة وصوله من قبل الجماعات المعادية لجماعته فور وصوله لسوريا.
اقرأ/ي أيضًا: هجوم بنغلاديش..كيف يغير داعش استراتيجيته لكل دولة؟
لداعش أيضا بطلة خارقة مثيرة للجدل جرى أسطرتها مؤخرا هي القناصة "نورا الروسية" أو "نورا العمري" فتاة في الـ 28 من عمرها، شقراء، وطويلة، من أصل أذري، حسب وصف المصادر الاستخباراتية العراقية انضمت للقتال مع تنظيم داعش منذ العام 2014 في سوريا قبل أن تنتقل مؤخرًا للعراق.
يبدو أن البحث عن وحوش منذ ذلك التاريخ أضحى لعنة في تاريخ سوريا
لدى النظام السوري شخصية أسطورية أيضًا هي شخصية "النمر" وهو عقيد في الجيش اسمه سهيل الحسن، ظهر أمام وسائل إعلام محور النظام السوري كبطل خارق في العام 2014 يحبه "رجاله" إلى درجة العبادة، وأظهرت مقاطع فيديو مقاتليه وهم يسجدون أمام قدميه، لكن "النمر" المسكين تعرض لسخرية مريرة بعد تصريحاته ونظرياته المضحكة والشهيرة حول "المؤامرة التي تمر بها سوريا"، حيث حرصت وسائل إعلام النظام السوري على إبرازه كرجل أحمق يتكلم كلامًا فلسفيًا غير مترابط وهو ظهور فُسر حينها على أنه مقصود من قبل النظام السوري بعد أن تسائلت وسائل إعلام غربية عما إذا كان من الممكن أن يكون "النمر بديلًا عن الأسد"، فكان إظهار حمقه في التصريحات محاولة من النظام السوري لتحطيم نجم هذا العقيد الصاعد الذي ارتفع بشكل غطى على "بطولات" الرئيس السوري بشار الأسد ذاته.
اللافت أن كل هؤلاء الوحوش ظهروا في العام 2014 دفعة واحدة على وسائل بشكل مثير للدهشة، وتم تصويرهم على أنهم "آلات" قتل لا ترحم الأعداء، ولاقت قصصهم رواجًا كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي وكانت مادة دسمة في الصحافة العالمية.
في التاريخ السوري الحديث ثمة كتاب شهير عنوانه "سوريا والصراع على الشرق الأوسط" كتبه الصحفي البريطاني "باتريك سيل" الشهير بكونه "كاتب سيرة حافظ الأسد"، لأن أحداث الكتاب ومعلوماته جاءت بإشراف شخصي من الأسد الأب نفسه. افتتح باتريك سيل هذا الكتاب بالبحث عن أصول عائلة الأسد "التي ظلت مجهولة إلى اليوم، فكان الفصل الأول منه بعنوان "النزول من الجبل" جاء فيه التالي حرفيًا:
اللافت أن كل هؤلاء الوحوش ظهروا في العام 2014 دفعة واحدة على وسائل بشكل مثير للدهشة، وتم تصويرهم على أنهم "آلات" قتل لا ترحم الأعداء
"في أواخر القرن الماضي، هبط ذات يوم مصارع تركي متجولًا في قرية من قرى جبال سوريا الشمالية الغربية، وبصوت راح صداه يرنّ في أرجاء القرية، عرض أن يتحد كل القادمين. تجمهر القرويون حوله للتفرج والتمتع، ولكنهم ما لبثوا أن أخذوا يتأوهون وهم يشاهدون أقرانهم يتساقطون واحدًا بعد الآخر أمام التركي الذي بدا أنه لا يقهر. وفجأة برز إليه من بين الصفوف رجل قوي البنية في الأربعينيات من عمره، وأمسك به من وسطه ورفعه بقوة في الهواء ثم طرحه أرضًا. فصاح القرويون معجبين: "يا له من وحش! إنه وحش". كان اسم بطلهم هذا سليمان ولكنه منذ ذلك الحين أصبح يعرف باسم "سليمان الوحش". وظل "الوحش" لقبه العائلي حتى العشرينات. كان ذلك الرجل هو جد "حافظ الأسد".
يبدو أن البحث عن وحوش منذ ذلك التاريخ أضحى لعنة في تاريخ سوريا، فجلادو الأسد أصبحوا وحوشًا وفروع مخابراته أصبحت غابة وحوش تربى فيها "وحوش" الجماعات المتطرفة من القاعدة إلى داعش، حتى اقتصاده كان وحشًا فتك بثروات سوريا وبخيرات شعبها، وسياسته أيضًا كان قائمًا على "التوحش" في سبيل الحفاظ على مكاسبه الشخصية لا مصالح بلده إلى أن جعل سوريا اليوم "غابة من الوحوش" النهمة.
في هذه الحرب الملعونة التي تفتك بسوريا وشعبها كان البحث عن وحوش بشرية هاجسًا لدى الوحوش المتقاتلة، وصار تفنن كل طرف منهم في إبراز صورة "وحشه" مستحضرًا الأساطير الدينية والسينما الهوليودية في تغليف بطولات وحوشه الفتاكة التي لا ترحم... باستنثاء شخصية نورا الروسية الشقراء "الغراء، المصقول عوارضها" والتي ظلت صورتها مجهولة إلى اليوم بما يتيح للخيال الشعبي تصوير جمالها المدمر، فإن صور "هالك" الإيراني/الفارسي، و"غول" داعش السنية أو "بلدوزرها"، أو شخصية "أبو عزرائيل" الشيعي وشخصية "النمر"، تعطي قراءة واحدة في مآساة سورية واللعنة التي حلت بشعبها المسكين، وهي أنه لا مكان في هذه الحرب الدموية البشعة للعقلاء لا مكان إلا للوحوش المعتاشين على الدماء التي يسفكها الحقد الطائفي والتاريخي.
اقرأ/ي أيضًا: