كان "أبو فاروق"، يمتلك خمسة دوانم في "جرف الصخر". كان يشرف على العديد من المزارعين في أرضه، يأكل هو وعائلته وأقاربه مما تجود به الأرض، يقول إنّ "خيرها كان كثيرًا". كانت أزمته الكبرى في انقطاع المياه أو أن يبتلى العراق بموسم غير ممطر. لم يعلم أنّ أزمته ستكون في "موسم مسلّح" سيجعله يغيب قسرًا عن أرضه لـ9 سنوات.
تعتبر قصة "جرف الصخر" التذكير الدائم بسلطة الجماعات المسلّحة في العراق
في الأعوام 2013 و2014، وجد "أبو فاروق" مع نحو 180 ألف شخص من أهالي "جرف الصخر" أنفسهم خارج مزارعهم وبيوتهم ومدينتهم التي تبعد عن بغداد 60 كيلو متر. معظم هؤلاء، يعيشون في مخيمات ومعسكرات ومدن مختلفة من العراق، حيث يعتبر أكثرهم أن عودتهم شبيهة بحلم.
لِم يعتبر "أبو فاروق" عودته حلمًا من الصعب تحقيقه؟ وجهنا له هذا السؤال، وأشّر بيده نحو شاب من أبنائه الكثيرين. قال إنّ حازم كان طفلًا حين خرجنا، انظر له كيف أصبح شابًا لا يتذكر ولا يعرف شيئًا من المزارع التي تركناها في ليلة ظلماء، ثم وبابتسامة سريعة، قال: "انظر إلى لحيتي كيف أصبحت بيضاء".
تعتبر قصة مدينة "جرف الصخر" التذكير الدائم بسلطة الجماعات المسلّحة، حيث تختار الأخيرة أن تكون في قضايا معينة أعلى من سلطة الدولة. تسنم حكم العراق أثناء وبعد تحرير المدن من "داعش"، أربعة رؤساء وزراء، هم حيدر العبادي، وعادل عبد المهدي، ومصطفى الكاظمي، والآن، محمد شياع السوداني، كلّهم وعدوا بأنهم سيجعلون أهالي جرف الصخر ينامون في بيوتهم، لكن نومهم لا يزال في مخيمات ومعسكرات النزوح التي تقول الحكومة إنها ستنهي ملفها خلال العام الحالي.
"صلاة الخنجر"
مع تشكيل حكومة، محمد شياع السوداني، في تشرين الأول/أكتوبر 2022، تحدث العديد من ما يسمى بـ"القيادات السنية" بورقة اتفاق سياسي، قال كثيرون منهم إنها تضمنت "عودة أهالي جرف الصخر إلى مدينتهم".
بعدها، وفي آذار/مارس 2023، قال رئيس تحالف السيادة، خميس الخنجر، "سنصلّي في الجرف قريبًا"، في إشارة إلى أن الأمر كان ضمن اتفاق تشكيل حكومة السوداني، لكنّ المسؤول الأمني في "كتائب حزب الله"، أبو علي العسكري، رد سريعًا على "صلاة الخنجر"، بأنها "حلم إبليس في الجنة".
تسيطر "كتائب حزب الله" على "جرف الصخر"، وهي من تمنع عودة أهلها، فضلًا عن منعها لأي سياسي ينوي فقط زيارة جرف الصخر أو يطلق شعارات بشأنها، هذا ما يقوله سياسيون.
فعلًا، لم يصلّي الخنجر إلى الآن في "جرف الصخر"، ولم يستطع هو أو أحد من تحالف السيادة الوصول أو دخولها للاطلاع على أوضاع المدينة داخليًا.
يتحدث كثيرون من أهالي المخيمات عن "استغلال" يقوم به السياسيون الذين يمثلون مناطقهم، كلّما اقتربت الانتخابات. قال "خالد الجنابي" إنهم "يكذبون علينا ويتاجرون بمعاناتنا"، أضاف أيضًا: "سمعت قبل سنوات أننا سنعود، لكن كل يوم أتأكد من أن العودة تتحول إلى حلم صعب المنال".
وعد السوداني الذي لم يتحقّق
"صلاة الخنجر" التي لم تتحقق، جاءت بعد وعد قدمه رئيس الحكومة الحالية، محمد شياع السوداني، في منهاجه الحكومي، وكان لافتًا أنه تطرق إلى "جرف الصخر". قال السوداني، إنّ "الحكومة تلتزم في إعادة النازحين إلى مناطق سكناهم خلال ستة أشهر من تشكيلها، بما في ذلك، نازحو جرف الصخر بعد تدقيقهم أمنيًا".
مضى على حكومة السوداني أكثر من ستة أشهر، دون أي تبرير لتعثر ملف أهالي "جرف الصخر"، أو توضيح أسباب عدم الاقتراب منه.
لم يستطع "خميس الخنجر" أن يصلّي في جرف الصخر كما وعد إلى الآن
حزب "تقدم"، وهو الحزب الأكبر حاليًا في خارطة المدن المحررة، حين وجه "ألترا عراق" سؤالًا لأحد نوابه عن ملف نازحي "جرف الصخر"، دعا إلى سؤال حكومة السوداني عن عدم الالتزام بإعادة نازحي هذه المنطقة.
وقالت النائب عن محافظة بابل، مها الجنابي إنّ "من شارك في مفاوضات تشكيل الحكومة، عليه أيضًا توجيه السؤال لرئيس الوزراء عن أسباب عدم التزام حكومته بوعودها".
ويفترض أنّ "تقدم" الذي تنتمي الجنابي له، هو من أعمدة ائتلاف "إدارة الدولة"، الذي شكّل حكومة السوداني.
لكن مع ذلك، وجه "ألترا عراق" سؤالًا إلى المتحدث باسم الحكومة، باسم العوادي، عن أسباب عدم قدرة السوداني على تنفيذ وعده بـ"إعادة نازحي جرف الصخر".
لم يكن العوادي يعلم بوجود "أي وعد" حول عودة نازحي جرف الصخر في المنهاج الحكومي، وطلب مهلة مع إرسال النص للتأكد. تم إرسال صور من المنهاج الحكومي بخصوص "جرف الصخر" إلى العوادي، لكن وبعد الانتظار لأكثر من 15 يومًا، لم يجب المتحدث باسم الحكومة، أو يرسل أي توضيح بخصوص السؤال.
ليس السوداني وفريقه وحدهم من لم يقدموا أجوبة حول موضوع "جرف الصخر"، حيث أنّ عادل عبد المهدي، حين كان رئيسًا للوزراء في العام 2019، وجه له هذا السؤال في مقابلة تلفزيونية: "هل القوات العراقية قادرة على أن تذهب إلى جرف الصخر أم ثمة من هو أقوى منها؟"، ردّ عبد المهدي بالقول إنّ "الله أقوى من عندنا"، واصفًا السؤال عن أمر كهذا بـ"المحدود".
"ضغوطات خارجية وداخلية"
أقرّ مجلس النواب العراقي، في حزيران/يونيو 2023، موازنة لثلاث سنوات، وكان عديدون ينتظرون وضع مخصصات كافية لعودة نازحي جرف الصخر، نظرًا لوجود ذكر للقضية في المنهاج الحكومي، فضلًا عن أن الموازنة مثلها مثل الحكومة التي تتشكّل باتفاقات سياسية بين الفرقاء، لكن يبدو أنّ ثلاث سنوات قادمة، ستنتهي بالوعود، بحسب برلمانيين.
قال رئيس لجنة الهجرة والمهجرين النيابية، شريف سليمان، إنّ التخصيصات المالية التي جرى تثبيتها في الموازنة لوزارة الهجرة والمهجرين لم تتضمن أي أعادة للنازحين، سواء من جرف الصخر أو أطراف بغداد أو غرب العراق.
خصّص لوزارة الهجرة والمهجرين في الموازنة 354 مليار دينار فقط، ضمنها التشغيلية والبرامج والطوارئ، دون أموال أخرى للنازحين.
ويصف سليمان أغلبية مدن النازحين بـ"غير الصالحة للعيش"، ويقرّ أيضًا بأن السنوات مضت دون أي برامج جدية "رغم وجود اتفاقات سياسية مع وجود بنود في المنهاج الوزاري المعلن أمام جميع الكتل السياسية".
ولم تستغرب النائب عن محافظة بابل، مها الجنابي، من غياب ملف جرف الصخر عن قانون الموازنة، قائلة إنّ ذلك "خلفه ضغوطات سياسية داخلية وخارجية وغيرها".
لا أحد يعلم بما يجري هناك
للنزوح الذي حصل من "جرف الصخر" خصوصية، باعتباره حصل بنسبة 100 %، ويعيش أهل هذه المدينة الآن بين محافظات الأنبار وكركوك والسليمانية وأربيل وكربلاء، كما تقول النائب الجنابي.
أغلبية مدن النازحين غير صالحة للعيش وبحاجة إلى أموال لإعادة تأهيلها
حرفيًا، لا أحد يعلم ما الذي يجري في "جرف الصخر"، لم يصل أشخاص من أهلها إلى هناك طوال السنوات الماضية، لم يستطع أي قائد أمني أو سياسي أن يطلع على تفاصيل المزارع الشاسعة التي تتميز بها المدينة، وعلى ما يبدو، أن لا أحد يمتلك جوابًا واضحًا غير الفصيل الذي يسيطر عليها.
أما "أبو فاروق"، أصبح لديه أحفاد، حيث ولد لأبنائه وبناته، سبعة أطفال خارج المدينة، قال إنهم تزوجوا في أربيل وعمان. قال أيضًا إنه يعمل بتجارة السيارات الآن، وحين وجه سؤالًا له عن عودته مستقبلًا للزرعة، قال بالحرف الواحد: "كل العراق الآن عطشان".