22-يوليو-2019

تظاهر أنصار تيار الحكمة في عدد من المحافظات في سياق نقل المعارضة إلى الشارع (تويتر)

رغم الانطباع العام في الشارع العراقي عن زعيم تيار الحكمة عمار الحكيم، خصوصًا فيما يتعلق باستحواذه على مساحة شاسعة في مناطق الجادرية والكرادة، فنظرة الفساد السائدة على الحكيم لا تختلف عن تلك التي تطال أقرانه من السياسيين، إلا في تفصيلة ارتباط أسمه بتلك المناطق المذكورة.

طرح تيار الحكمة نفسه معارضةً برلمانية، انتقل بها إلى الشارع، ورغم تأثر الحكيم بشعبية الصدر وتحركاته، إلا أن الخيار الجديد بالنسبة لهذا التيار كان مفاجئًا بعض الشيء

بعيدًا عن تلك النظرة العامة، فأن النظرة الخاصة من قبل المهتمين بالشأن السياسي تقر بإمكانية الحكيم على إدراك أين تتجه البوصلة، كما تُلاحِظ "براغماتية" تحكم تحركاته، حيث لا يرمي حجرًا في الظلام، كما يقول المثل الشعبي.

اقرأ/ي أيضًا: الحكيم ينقل "المعارضة" إلى الشارع وعبد المهدي يحذره من أخطاء منهجية خطيرة!

طرح تيار الحكمة نفسه معارضةً برلمانية سرعان ما انتقل بها إلى الشارع، ورغم إشاراتنا السابقة إلى تأثر الحكيم بشعبية الصدر وتحركاته، إلا أن الخيار الجديد بالنسبة لهذا التيار كان مفاجئًا بعض الشيء بالنسبة للمتابعين.

غزت صور التظاهرات التي نظمها تيار الحكمة، الجمعة الماضية، مواقع التواصل الاجتماعي، مصحوبة بمنشورات ساخرة وتعليقات تهكمية، خصوصًا وأن الحكيم استخدم لفظ "المليونية" في دعوته للتظاهرات كما كان يفعل الصدر في تظاهراته؛ لكن أعداد المتظاهرين كانت قليلة بالمقارنة مع التغطية الإعلامية والمناكفات بين الحكمة وجهات سياسية أخرى، منها رئيس الوزراء نفسه. وقد يَعدّه البعض إخفاقًا في تقدير الموقف بالمقارنة مع الإمكانيات الذاتية.

لكن دعونا نطرح السؤال التالي: ما الذي يُريده الحكيم؟

يُحاجج تيار الحكمة بأنه يُريد إصلاحًا من داخل النظام عبر معارضة برلمانية، ولا يشترط ذلك تخليه عن حصته من الدرجات الخاصة، ويتهمه الخصوم بأنه يسعى للضغط من أجل المزيد من المكاسب فيما يخص المناصب العليا في الدولة، طالما أنه تخلى عن حصته في الكابينة الوزارية . ونحن هنا ليس بموقع الحَكَم، وتمييز من هو أصدق في طرحه، بل لقول شيءٍ ثالث.

تدرك كل القوى السياسية أن انتهاء المعركة مع داعش، وما خلّفته من تدهور اقتصادي، وضعفٍ في البنى التحتية، خَلَقَ حالةً من النفور الشعبي والاحتجاجات الفئوية والعامة لا يُمكن كبحها بالحجج القديمة (داعش، الطائفية، عودة البعث.. الخ)، وقد وصلت حد الاصطدام بقوات الأمن. وأطلق العديد من السياسيين على وزارة عبد المهدي وصف "حكومة الفرصة الأخيرة". ولا بد أن الحكيم مِن بين مَن يُدركون الانسداد الحاصل في العملية السياسية. ومن يتوقعون تصاعد الاحتجاجات الشعبية تزامنًا مع ضعف الأداء الحكومي والبرلماني، والصراعات العلنية على المناصب.

يُحاجج تيار الحكمة بأنه يُريد إصلاحًا من داخل النظام عبر معارضة برلمانية، ولا يشترط ذلك تخليه عن حصته من الدرجات الخاصة

إضافة أخرى، أدخل تيار الحكمة اصطلاحًا جديدًا على العملية السياسية في خطابه الإعلامي، وهو اصطلاح "الموالاة" بمقابل المعارضة. وهي محاولة لفرز القوى السياسية إلى معارضين، وموالين للحكومة "وإن لم يشتركوا فيها!"، وهي حركة محسوبة بدقة لتحميل تحالف سائرون والفتح مسؤولية الحكومة أمام المواطنين، وقطع الطريق أمامهما للتحجج بالتنازل عن استحقاقهم الانتخابي في وزارة عبد المهدي.

اقرأ/ي أيضًا: "الدرجات الخاصة".. كيف تجمع بين المعارضة والمحاصصة؟

مع حالة الانسداد والخوف من الاحتجاجات الصيفية، وادّعاء كتل سياسية مثل الفتح وسائرون عدم اشتراكهما في الحكومة، وهو ما يَسمح لهما بالتملص من مسؤوليتهما في حال إخفاق عبد المهدي "المتوقع"، يبدو اتخاذ خيار المعارضة ذكيًا، كالقفز من السفينة قبل غرقها.

من هنا، قد تكون خطوات الحكيم في النزول إلى الشارع "استباقية" لتدارك ما فقده من استحواذ الفتح وسائرون على القرارات السياسية والمناصب الخاصة حسب قول أعضاء تياره. أما التوقيت، فباعتقادنا هو التزامن مع التذمر الشعبي والغضب البصري، وقد يُصار إلى استغلال المطالبات بالإقليم لتبني ذلك المطلب وتحويله إلى برنامج سياسي، ولهم سوابق في ذلك، ما يعني الظفر بقلوب البصريين الذي يرون بالإقليم خلاصهم.

هل انتهت الأسباب الموجبة للاستعجال بالنزول إلى الشارع ؟ ـ ليس بعد، ففرز القوى إلى معارضة وموالاة لا يمنع من انقلاب "بالمعنى السياسي" ينفذه زعيم التيار الصدري على حكومة عبد المهدي، بالذات، مع مهلة العام التي أعطاها للأخير، إذ من المحتمل أن يعود الصدر إلى الشارع مع 55 برلمانيًا لتحقيق مطالب أخرى بعد أن ينتهي ملف الدرجات الخاصة. وسنرى إذا ما كان الحكيم قادرًا على منع الصدر من قلب الطاولة عليه، بالاستمرار في تثبيت هذا الفرز: معارضون وموالون.

تلك الخطوات المنطقية والذكية لا تعني بالضرورة نجاحه في عزل الصدر مع الفتح في خانة الموالاة، خصوصًا مع إمكانية و "سوابق" الصدر في قلب التوقعات وخلق المفاجئات، معتكزًا على قاعدة مُطيعة وجاهزة لتنفيذ رغباته. كما أن ذكاء خطوة الحكيم لا يعني أنها لم تُظهر للناس فشله في تنظيم تظاهرات حاشدة في الوسط والجنوب على غرار التظاهرات الصدرية السابقة.

ما كُتِب أعلاه، هو قراءة ثالثة "تحليلية" لا تنفي القرآتين السائدتين، أما ما نريد قوله هو الآتي:

لا يخلو نزول الحكيم إلى الشارع من مخاطر على الحركة الاحتجاجية وخطها الوطني، فقد يترك الناس ساحات الاحتجاجات لتيار الحكيم، كما ترك المدنيون "التحرير" للصدريين في 2015 ثم تذمروا من استحواذهم على الساحة، ثم من أداء تحالف سائرون بعد الانتخابات.

قد يستغل تيار الحكمة المطالبات بالإقليم لتبني ذلك المطلب وتحويله إلى برنامج سياسي، ولهم سوابق في ذلك، ما يعني الظفر بقلوب البصريين الذي يرون بالإقليم خلاصهم

أما الخطر الثاني، فهو اللجوء إلى مسألة البصرة والإقليم، وسيصنع ذلك فجوات بين أبناء الجنوب، والبصرة وبغداد، ليخلق تكتلًا بصريًا حكيميًا منقطعًا عن الامتداد الوطني، يُقدم نموذجًا سيئًا لتبني "تيارات سياسية" لمطالب شعبية تنحرف عن طريقها الصحيح!.
اقرأ/ي أيضًا: المعارضة السياسية.. دور المُحاسِب أم ضغط للمكاسب؟

إن التخلي عن ساحات الاحتجاج يعني القضاء على أي صوت من خارج السلطة يُمكنه المزاحمة والضغط على قوى الحكم دون إمكانية "المساومة" السياسية، وترك العمل السياسي الرسمي والشعبي لتلك القوى، خاصة وأن الناس لديهم هواجسُ من نزول التيارات المُشاركة في العملية السياسية إلى الشارع، ما يؤدي إلى نفور من تلك الحركة، وإدخال العمل السياسي بنفق "إعادة التدوير".

رغم ذِكْرِنا لخطر ترك الشارع لجهة سياسية، ومخاطر سحب الاحتجاجات منها إلى مواضع لا تخدم قضايانا الوطنية؛ لكن الاحتجاج بذاته لا يخلو من فوائد لمن يعتقدون أنهم في معركة مع ركني هذا النظام: الفساد والمحاصصة. وكنّا قد حذّرنا من "عملية تطبيع" شاملة للعملية السياسية مع الشارع العراقي، شرعت بها القوى والكتل الفاعلة بعد انتخابات 2018، وأرادت أن تشرك معها وسائل الإعلام والشخصيات الفاعلة المُعارضِة لإنقاذ النظام من انهيار يطال الجميع. وسيحمل هذا التطبيع الإجباري معه ـ بالضرورة ـ إجراءات متعلقة به مثل التغطية على الصفقات السياسية وقضايا الفساد، وعزل الناس عن النقاشات التي تدور خلف الكواليس والملفات التي تُفتح في الخفاء.

من وجهة نظر براغماتية، وبالأخذ بمصلحية الحراك، ستكسر معارضة الحكمة مساعي التطبيع مع العملية السياسية، لشذوذها عن الإجماع، وسيُفعِّل حراكهم وسائل الإعلام ومواقع التواصل بالمواد والتصريحات والملفات الساخنة التي تُعكّر أي "ركود شعبي"، وتساهم في إدامة الغضب والاعتراض الذي يُعزز من الضغط الجماهيري على القوى السياسية. وربما، ذلك هو السبب الحقيقي والوحيد وراء الامتعاض الحاد من القوى السياسية ورئيس الوزراء نفسه من حراك الحكيم، وليس من ثقل الحكيم الجماهيري، الذي بان حجمه.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المحاصصة.. إعادة الإنتاج بـ"المعارضة" وغيرها!

مواجهات رجل الحكيم الساخنة في واسط: "معارضة" على طريقة "الميليشيات"!