لا تخلو خطابات الساسة العرب ووزراء تعليم الدول العربية للطلاب من جملة: "تفرغوا للعلم، لا تدعوا أي شيء يشغلكم عنه، فأنتم عماد الوطن وبُناة المستقبل"، والقصد من هذه الخطابات الموجهة لهذه الفئة الشبابية، هو أبعاد الجسد الطلابي النشيط عن دائرة السياسة والقرار السياسي، وبالتالي تسهل عملية التسلط التي تمارسها الأنظمة على الشعوب بدون رادعٍ منظم يعكر عليهم صفو الخراب الممنهج الذي يمارسونه بحق الناس، والسؤال المطروح هنا: هل نستطيع طلبة كنا أو غير طلبة أن ننعزل عن السياسة والعمل السياسي؟
نحن في نهاية الأمر مادة القرار السياسي الذي يتخده النظام، نحن ضحاياه أو فرسانه
علينا أن نعلم أنه حتى لو قررنا، بل وعقدنا العزم على ترك السياسة واعتزالها فإنها لن تتركنا، لأن السياسة هي الإدارة العامة لشؤون الناس، وهذه الإدارة أما أن تؤدي إلى مساواة وحرية وحياة كريمة، أو إلى النار والدم والفقر المدقع. إن القرار السياسي هو الذي يحدد طبيعة التعليم الذي نتلقاه، طبيعة الطعام الذي نأكله، طبيعة المسكن الذي نسكنه، طبيعة الطريق الذي نعبره، طبيعة الجريدة التي نقرأها، طبيعة المذياع الذي نسمعه، طبيعة التلفاز الذي نشاهده، بل وكمية الدراهم والدنانير التي نحملها في المحفظة. نحن في نهاية الأمر مادة القرار السياسي الذي يتخده الرئيس، نحن ضحاياه أو فرسانه، فالقرار السياسي ليس شيئًا منعزلًا عنا، لا يؤثر فينا أو يتجاوزنا أو يتخطانا، أنه قرار لنا أو علينا، وهذه الجيوش الإدارية، وهذه الوزارات ما هي إلا أدوات لتنفيد القرار السياسي ونقله من كونه فكرة تتأرجح في رأس الأمير أو الملك أو الرئيس، إلى واقع نعيشه في البيوت، وعليه ينبغي أن ندرك بأن مصلحتنا تقتضي عدم اعتزال السياسة، بل تقتضي مراقبتها والمشاركة فيها باتجاه يضمن أن يكون القرار السياسي متماشيًا مع المصالح العليا للوطن، فالوطن هو الأمن، الخبز، الحرية والمساواة، وكل ذلك في إطار من المشاركة السياسية.
اقرأ/ي أيضًا: الطلبة ودورهم في الحركة الاحتجاجية الوطنية
آخر حراك سياسي لطلبة العراق كان عام 1967 عندما اكتسح اتحاد الطلبة العام الانتخابات الطلابية بنسبة 80% من مجموع أصوات الطلبة، مما اضطر الحكومة آنذاك لإلغاء الانتخابات وإعلان حملة ملاحقة شرسة على الفاعلين داخل الاتحاد. طبعًا، قد سبق هذا الحراك السياسي بسنوات احتجاجات واعتصامات طلابية على مدار السنوات التي سبقت عام 1967، ومن أوائل الحركات المنظمة للطلاب كان الإضراب الطلابي لأعدادية بغداد المركزية عام 1926، كذلك الاحتجاجات التي قادها الطلبة عام 1928 ضد زيارة الداعية الصهيوني "ألفريد موند" لبغداد في وقتها. أيضًا، التظاهرات والاعتصامات والإضرابات في الفترة من بداية الثلاثينيات حتى عام 1948 تعاضدًا مع فصائل الحركة الوطنية العراقية. بالإضافة إلى انتفاضة تشرين عام 1952 التي تفجرت شرارتها من كلية الصيدلة في بغداد وتضامنت معها المدارس، وهزّت أركان الحكومة وأجبرتها على إنزال الجيش إلى الشوارع. وانتفاضة 1956 التي انطلقت شرارتها مع العدوان الثلاثي على مصر وتأميم قناة السويس، وشارك الطلبة في الحشد بزخمٍ كبير. علاوةً على ذلك، حدث الإضراب الطلابي الكبير في ثانوية الزراعة في مدينة الكوت في أبريل/نيسان عام 1960.
ومن بعد عام 1967 اختفت الحركات الطلابية السياسية بسبب إخماد أي نشاط سياسي أو اجتماعي من قبل حزب البعث، وتحويله لنشاط عسكري عن طريق توجيه الطاقة الشبابية "رغمًا" لثقافة العسكر. ومن بعد طول غياب، عاد فرسان اللون الأبيض إلى الساحة السياسية في العراق، عاد الطلاب في تشرين الأول/أكتوبر 2019 ليقولوا كلمتهم التي كانت الأعلى في انتفاضة الشعب العراقي ضد النظام المحاصصاتي الذي فصلته سيدة الخراب الأولى -أمريكا- ونسجته بعد الفصال الجارة الثقيلة والمطبقة على أنفاس العراقيين -إيران-. لكن هذه الكلمة التي قالها الطلاب والتي قرعت أسماع الصم والبكم من السياسيين كانت مضرجة بدمائهم الزاكية. وكان رمزها الشهيد محمد المختار، صاحب العشرين ربيعًا، والتي تحولت لعشرين خريفًا بعد سقوطه على أسفلت الشارع.
استشهد مختار طالب كلية علوم الحاسبات/جامعة النهرين إثر مشاجرة! هكذا كتبت السلطة في شهادة وفاته التي استلمها ذووه. لكن التقرير الطبي غير الرسمي والذي تم تسريبه من قبل بعض الأطباء من المشفى الذي توفي فيها مختار إلى أهله بالسر كان يتضمن: "الوعي مشوش ساعة الفحص، العین الیسرى ذات بؤبؤ متوسع، العین الیمنى عبارة عن نسیج متشوه نازف، البطن رخوة والصدر غیر نظیف إثر نزيف داخلي أصاب أعضاء الجسد" هو أُصيب بقنبلة دخانية أخترقت رأسه وأحلامه، مزقت ابتسامته التي تطغى على كل شيء أثناء حضوره في أي مكان.
أثناء حديثي مع شقيقة محمد المختار (روان المختار) قالت لي بأنه أشترى علم العراق في ليلة 25 تشرين/أكتوبر 2019، وأتخذه كغطاء له أثناء نومه في تلك الليلة، وكأنه يعلم أن ذات العلم سيوضع على جسده بعد سرقة روحه من قِبل أرباب الخراب. وفعلًا أتشحت جنازته بذات العلم الذي كان لا يُفارقه أثناء تواجده في المسيرة الطلابية أو في ساحة الخلاني، المكان الذي كان يوزع فيه الماء والطعام على المحتجين، ذات المكان الذي توزعت به أحلامه مثل ما تتناثر حبات السمسم على الأرض. في تمام الساعة الرابعة والنصف عصرًا من يوم 25 شباط/آذار 2020 أصابت تلك الدخانية رأس طير السلام "محمد المختار".
خرج مختار ومعه الأصدقاء بمسيراتهم الطلابية المساندة للصرخات التي ملأت شوارع العراق في تشرين، وكان شعارهم الأول أمام وزارة التعليم العراقية: "تعليمكم فاشل.. تعليمكم فاشل"، يعرف مختار بأن هذه المنظومة السياسية بتعليمها وصحتها وخدماتها ككل عبارة عن مؤسسات لتقنين السرقة الممنهجة من قبل الساسة، لذلك احتج الطلاب على تعليمهم الذي يُعتبر خارج التصنيف العالمي للتعليم.
وفي رسالة صوتية مشهورة على منصات التواصل الاجتماعي مرسلة من مختار لأحد أصدقاءه يقول فيها: "الله يشهد آني جسمي متكسر ومتشنج بس هذا واجبنا الوطني أن نطلع ونتظاهر من أجل العراق" الحالة المعيشية لعائلة الشهيد فوق المتوسطة، بل وتدنو من الجيدة. بالإضافة إلى أن مختار يمتلك مشروعه الخاص -محل لبيع السجائر الألكترونية- لبّ الحديث هنا، أن محمد لم يخرج لطلب وظيفة أو معونة من الدولة، لا هو ولا أغلب زملاءه، هم أرادوا استرداد الأرض المسروقة "سياسيًا" التي يعيشون عليها، ويرون أن هذه الانتفاضة هي "واجب وطني"، وبدل استرداد الوطن المسروق، سرق الوطن روح مختار ببرهة عين، وإلى الآن، لا وطن مسترجع ولا مختارٌ حيّ.
في حديث الشهيد لأخته عندما تحاول إيقافه عن الذهاب لساحات الموت قال لها: "في المستقبل عندما أتزوج البنت التي أحب وأنجب منها أطفالًا كيف سأخبرهم بأنني لم أساهم بانتفاضة تشرين ولم أكن جزءًا منها؟!"، ولم ينل طير السلام هذا لا مستقبل ولا حبيبة ولا أطفال، كل الذي ناله هو نهر الدم الذي جرى من رأسه وبيتٌ يحتضنه فيه التراب لا أذرع البنت التي تمنى! يقول الشاعر العراقي جواد الحمراني في قصيدة له: "موتك شچچ بعيني الدنابيس.. الشايب من يموت نشگ الهدوم.. يا ثوب النشگه أعله العراريس.." مختار عرّيس تشرين الذي تحنّى بالدم بدل الياس والحنّة، ترك خلفه قلوب ورؤوس تملأها المُلمات والرزايا من كل حدبٍ وصوب.
كان محمد المختار وزملاؤه من الطلاب يؤمنون أن انتفاضة تشرين هي "واجب وطني"، وبدل استرداد الوطن المسروق، سرق الوطن أرواحهم
المنطق يقول بأن يقف الولد على جثمان أبيه وأمه أثناء الغسل والدفن، لكن القضية معكوسة عندنا في العراق، فشباننا صار الموت يتسابق مع نفسه لنزع أرواحهم من الأبدان، ليقف الأب على الغسل والدفن. يروي لي صديق يعمل في ذات الدائرة التي يعمل والد محمد المختار كمديرٍ لها ويصف لي حاله، يقول إن الرجل كان مثل البنايات العالية الشامخة التي لا تأبه لشيء، لكن بعد هذا الفقد الذي أصابه، سقط، لكن سقوطه كان مشابهًا لوقوفه، سقط مثل البنايات العالية، تلاشى على نفسه من الأعلى إلى الأسفل، لا يمينًا ولا شمالًا. رجع الطلاب إلى الساحة السياسية من جديد بعد سنوات عقودٍ من عسكرتهم رغمًا وفتراتٍ من تعبئتهم طائفيًا ضد بعضهم البعض. نفضوا غبار الأرزاء السابقة عن قمصانهم وطالبوا بوطنٍ يضمن لهم حياةً كريمة وقالوا: "طلابية طلابية لا شرقية ولا غربية"!
اقرأ/ي أيضًا:
حيدر سعيد: احتجاجات تشرين ثورة ولحظة مهمة في بناء الوطنية العراقية