من الدروس الأولى في الإعلام التي يتلقاها صحفي متدرب في العراق، منع استخدام الصفات دون نسبها لقائل بأدوات تنصيص، فلا يمكنه ذكر "السيد" أو "السماحة" أو "الجلالة"، كما لا يمكنه ذكر "الدكتاتور" أو "الطاغية" أو "المستبد"، حتى يُغير ذلك عرفًا يُلصق الصفة بصاحبها، فتصبح بقدرة العرف ومسيري الرأي العام، قاعدة لا مناص منها في كتابة الخبر.
تنسحب متطلبات الالتزام بـ"الحياد" في كثير من وسائل الإعلام العراقية، إلى الحياة الشخصية للعاملين بها وعلى صفحاتهم بالسوشيال ميديا
يأتي كل ذلك تحت مسمى "الحياد"، فيما يراه البعض تجاوزًا لمفهوم آخر قد يكون أكثر أهمية، وهو "الموضوعية". غير أن متطلبات الالتزام بـ"الحياد"، تنسحب في كثير من وسائل الإعلام بالعراق على الصفحات الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، للعاملين في هذه الوسائل، فيلزم على الصحفي ألا يحيد عن سياسة المؤسسة التي ينتمي لها. هنا يصبح الحياد أكثر من كونه حيادًا، انحيازًا مُطلقًا لسياسة الوسيلة الإعلامية التي يعمل بها، بالإجبار!
اقرأ/ي أيضًا: فصل صحفي عراقي بسبب "بوست" على فيسبوك.. شُرطة السلطة في إعلامها!
الصحفي الشاب علي عبد الخالق، رد على سؤال "ألترا صوت" عن الحياد الصحفي بقوله: "كلما عملت مع مؤسسة إعلامية، كانت ورقة الاستقالة بالجيب الخلفي لبنطالي"، يقصد استعداده للتخلي عن عمله ما أن يفرض عليه خارج ساحة العمل، رأيًا ما، مؤكدًا أنه ذو موقف "لا يحده الحياد".
أمّا الصحفية الشابة حنين خليلي، فأكدت على أنّ "الحياد مطلوب في بعض الأحيان"، موضحة أن ذلك يرجع لسببين: "الأول لكوننا نعيش في بلد يبيح هدر الدم الرأي المخالف بسهولة. والثاني لقلة فرص العمل".
وأضافت خليلي: "الصحفي يعتبر من قادة الرأي، لذلك ينتظر الناس رأيه في كل قضية، لكن الرأي الذي يحرض حياته أو مصدر عيشه للخطر، لا داعٍ له"، مستدركة: "على ألا يكون على حساب مبادئه قدر الأمكان".
لكن.. ما هو الحياد؟
يخرج عن هذا سؤال حول ما يعنيه الحياد بالأساس، ومقابلته للموضوعية. يرى نقيب النقابة الوطنية للصحفيين العراقيين ياسر السالم، أن "الحياد مفهوم نسبي تمامًا"، موضحًا: "ما يراه المتلقي موقفًا منحازًا ربما يجده الصحفي محايدًا".
ويعتقد السالم أن الحياد في عالم الصحافة يتراجع لحساب مصطلح "الموضوعية"، والذي حسب قوله "يتضمن عددًا من العناصر من بينها الحياد، إلى جانب نقل الحقيقة كما هي، وكذلك الدقة".
أما الصحفي حسن طارق، فيرى أن تجاوز الحياد واجبٌ مع "الضروريات الوطنية والأخلاقية المتعلقة بالصالح العام"، بل يزيد بقوله إن "الحياد لا يعني طبعًا عدم تبني المواقف"، موضحًا: "الإعلام إذا لم يُبنى على المواقف، وينتصر للضعيف والمظلوم، يصبح عاهرة تسترزق بالمعلومة المجردة أيًا كانت، وأيًا كان مصدرها".
ويعقب ياسر السالم، على ذلك قائلًا: "للأسف في العراق، وبسبب ضعف التقاليد المهنية للصحافة، وكذلك بسبب رواج المال السياسي؛ وقع الإعلام ضحية الصراعات، إلى حد أننا بدأنا نشهد، لا تراجعًا في موضوعية تناول الأحداث صحفيًا فحسب، وإنما مؤشرات الأخبار الكاذبة والملفقة أخذت في التصاعد خلال الأعوام الماضية".
إعلام الموقف
ويأتي هذا الحديث بالتزامن مع شيوع ظاهرة "الجيوش الإلكترونية" أو ما يعرف أيضًا بـ"الذباب الإلكتروني"، التي استبدلت بها المواقف المعلنة بالدس وابتزاز جهات لصالح أخرى بصناعة رأي عام وهمي على السوشيال ميديا.
يقول حسن طارق: "الشارع العراقي بحاجة ماسة إلى إعلام يربط المعلومة بالموقف، لتشكيل وبلورة رأيه الخاص"، مشددًا على أن شبكة الإعلام العراقي شبه الرسمية "يجب أن تكون المؤسسة ذات الموقف أكثر من غيرها".
لكن شبكة الإعلام العراقي هي نفسها التي طلبت من منتسبيها توقيع تعهد بـ"عدم الإساءة إلى الرموز الوطنية والدينية"، وهو الأمر نفسه الذي عممته هيأة الإعلام والاتصالات على المؤسسات الإعلامية المرخصة، ما أثار حفيظة شريحة واسعة من الإعلاميين والصحفيين، ودفعهم لإصدار بيان يعلنون فيه عدم الالتزام بهذه التوصية والمطالبة بتوضيح معنى "الرموز الوطنية والدينية".
حسن طارق: "الشارع العراقي بحاجة ماسة إلى إعلام يربط المعلومة بالموقف، لتشكيل وبلورة رأيه الخاص"
ورغم تنوع الفنون الصحفية، التي تتضمن المقال والعمود كما أشار السالم في حديثه عن سبل التعبير عن الموقف للعاملين في مجال الصحافة؛ إلا أن كل ذلك "لا يمكن أن يكون كافيًا ما دام مذيع النشرة نافذة معلومات وليس مدعٍ عام، وما دامت طاولة الحوار تخلو من مطرقة القاضي الخشبية".
اقرأ/ي أيضًا: