ظلت الحيوانات تعلب دورًا جوهريًا في حياة وثقافة العراق القديم، وسجلت المدونات المسمارية الكثير عنها، من الثيران التي تجر المحاريث في الأرض الخصبة، إلى الأسود التي يصطادها الملوك لإثبات قوتهم وبراعتهم، فالحيوانات الأليفة المستخدمة في السفر.
ومن المؤكد تمامًا إنّ الحيوانات الأليفة والبرية كانت جزءًا من نسيج الثقافي في العراق القديم، حيث اعتمد فنانو العراق القديم على مجموعة واسعة من الحيوانات المتاحة في بيئتهم آنذاك، وساهمت في إلهامهم الإبداع الفني وترميز آلهتهم، حتى أنّهم أحيانًا ينسبون الخصائص الحيوانية إلى قادتهم، وقد عمد أولئك الفنانون إلى تصوير هذه الحيوانات بشكل طبيعي حينًا، وبشكل فني منمق حينًا آخر.
رصدت دراسة حديثة أكثر 3 حيوانات شكلت رموزًا في تاريخ العراق الحديث ودلالاتها
وخلال تاريخ العراق الطويل وعبر حقبه المختلفة ظلت بعض الحيوانات تتكرر في المنحوتات والتمائم والمجسمات في المعابد والقصور وعلى أواني الأكل والشرب والأسلحة والموسيقى.
وتسلط دراسة حديثة للباحثة دانيلا كوران من جامعة ليستر البريطانية، الضوء على رمزية الحيوانات في الفن العراقي القديم، حيث رصدت أكثر الحيوانات تكرارًا في تاريخ العراق القديم.
تقول دانيلا، إنّ رمزية الحيوانات اتخذت مراتب فريدة في أهميتها بالنسبة لسكان العراق القدماء، فالأسود مثلاً، كانت سائدة في فن بلاد ما بين النهرين. في حالات كثيرة كان الأسد يرمز إلى "إنانا - عشتار"، إلهة الحب والحرب، اذ تشير ملحمة جلجامش إلى "عشتار" وهي تركب عربة تجرها سبعة أسود.
وفي مناسبات أخرى رمزت الأسود إلى "نيرغال" إله الحرب والأمراض والموت، و"نينورتا" إله القانون والكتبة والزراعة والحكمة في بعض الأحيان.
بالإضافة إلى ذلك، كان مشهد صيد الأسود مخصصًا للملوك، إذ تم تصوير مشاهد صيدها منذ 3000 قبل الميلاد على لوحات في جدران القصور، وكان صيد الأسود أحد أقدم رموز القيادة في كل الفنون، وغالبًا ما كان يُظهر الملوك أنهم أطول وأضخم من الأسود. ربما أن ذلك يشير إلى قوة الملك وسطوته على كل الطبيعة، بما فيها أكثر الوحوش شراسة، فمن واجب الملك تخليص الأرض من هذه الوحوش واستعادة السلام والنظام والحفاظ عليه.
ترى الدراسة في رمز الأسد في حضارة العراق القديمة في أحد أشكالها تمثيلاً للقوى المعارضة التي شكلت تهديدًا لمختلف دول المدن
من الناحية الرمزية، مثلت الأسود قوى معارضة شكلت تهديدًا لمختلف دول المدن، والانتصار على الأسود من شأنه أن يدفع الناس إلى تكريم قائدهم الشجاع، "الذي كان شجاعًا ومصممًا على حماية شعبه من التهديدات الواقعية والمجازية"، كما تشير الباحثة دانيلا، مبينة أنّ "صيد الأسود كان سائدًا في الفن الآشوري وبنفس القدر في الفن البابلي في القرن السادس قبل الميلاد".
ففي مدينة بابل نحتت الأسود بشكل بارز على طول شارع الموكب، واصطفت نحو 120 لوحة تصور الأسد البابلي على جانبي هذا الشارع المقدس، حيث يتم عرض الرموز في يوم رأس السنة الجديدة كل عام.
ترصد الدراسة أيضًا التكرار الذي تمتع به حيوان الماعز على امتداد تاريخ العراق القديم. تقول دانيلا: " كانت الماعز من أوائل الحيوانات التي دجّنتها شعوب الشرق الأدنى القديم، بسبب سهولة رعيهم وطبيعتهم الانقيادية، استخدمها سكان بلاد ما بين النهرين للعمل، والجلد، واللحوم، والحليب".
وعلى الرغم من أن القطعان الكبيرة كانت ملكًا لدولة المدينة أو المعبد، إلاّ أنّ منتجاتها الثانوية كانت تستخدم كأجرة للرعاة الذين يعتنون بها.
ومع أنّ الماعز كانت مفيدة للغاية لسكان بلاد بين النهرين، فإنّ حقيقة أنهم كانوا حاضرين دائمًا في الكثير من فنهم وأدبهم يشير إلى أنهم ربما كانوا جزءًا أكثر أهمية من ثقافة ودين بلاد ما بين النهرين.
ويشير البحث، إلى اكتشاف العديد من تماثيل النذور على شكل الماعز والأشكال التي تحمل الماعز كمثال على ذلك، مما يشي بأنّ الماعز كانت من بين الهدايا والعروض التي تفضلها الآلهة.
يمثل الماعز جزءًا مهمًا في ثقافة ودين بلاد ما بين النهرين بدليل تجسيدها في العديد من تماثيل النذور
ويمكن التعرف بسهولة على شكل الماعز في فن بلاد ما بين النهرين. ومع ذلك، فإن قرونها عادة ما تم تصويرها بشكل مبالغ فيه، ومن المحتمل أن تكون هذه المبالغة كخيار أسلوبي من جانب الفنان، بينما تم عرض بقية الحيوان بأسلوب نموذجي يمكن التعرف عليه.
وفيما يخص حضور الثور كأيقونة فنية في فن العراق القديم تذكر الباحثة، أنّ الثيران من أوائل الحيوانات التي تم تدجينها في العراق القديم، حتى قبل أن تستقر الحضارات الأولى وتشكل الحكومات.
في الواقع، ولأهميتها فقد حدد قانون حمورابي أجور استخدامها في العمل، وهي ترمز بلا شك إلى إله الخصوبة والحماية والتكاثر وأحيانا الى الألوهية بشكل عام، إذا ارتبط الثور بإله الرعد "أدد". وتذكر الملحمة كيف طلبت "عشتار" من الإله "أنو" أن يخلق ثورًا سماويًا يصارع كلكامش.
وتشير دانيلا أيضًا، إلى عملية الاندماج التي أبرزت الثيران المجنحة "لاماسو" التي تُظهر في بوابات المدن والقصور الاشورية، حيث يرمز رأس الإنسان إلى العقل والذكاء، بينما يرمز جسم الثور إلى القوة والقدرة، بالإضافة إلى حضورها وهي تزين القيثارات والأختام الأسطوانية والتمائم والأوعية والألعاب الصغيرة.
وتذكر الباحثة أنّ سكان العراق القديم هم أول من وحدوا مقاييس الأوزان لضمان العدالة في التجارة، لكن السبب في اختيارهم لأشكال هذه الأوزان كالبط والضفدع، ظل مجهولاً لغاية اللحظة.