يعدّ موت اللغات ظاهرة قديمة بقدم اللغات وتاريخيها في العالم، و يشار إلى اللغات المتأثرة بهذه الظاهرة على أنها لغات ميتة أو منقرضة، اعتمادًا على ما إذا قد تحولت هذه اللغة إلى لغة مختلفة أو تناسل منها لغات أخرى عبر سياق طبيعي تطوري لشكل اللغة القديم تاريخيًا واختفاء الناطقين به تمامًا.
كان موت اللغة الأكدية من أبرز المواضيع التاريخية التي شغلت الباحثين والدارسين للغة
وتعدّ اللغة الأكدية، وهي أقدم لغة سامية موثقة من الأمثلة الواضحة على موت اللغات وانقراضها بعد أن احتلت اللغة الآرامية في وقت مبكر خلال الألفية الأولى قبل الميلاد مكانها في العراق القديم. شغل موت اللغة الأكدية أذهان المتخصصين والباحثين لوقت طويل وفي دراسة حديثة للعالم يوهانس هاكل المتخصّص بدراسات الشرق الأدنى القديم في جامعة جينا الألمانية، يرى أنّ "الانتشار السريع للغة الآرامية كان بسبب ظهور الأشخاص الناطقين باللغة الآرامية في بلاد ما بين النهرين، هذا الظهور تم تسجيله لأول مرة في المصادر الأكدية تعود لعهد الملك الآشوري تغلث فلاسر الأول (1115-1077 قبل الميلاد"، أما شعبيتها المتزايدة ودورها النهائي كلغة مشتركة في معظم أنحاء الشرق الأدنى القديم فقد سجل بدقة في بعض المصادر على سبيل المثال في رسالة وجدت في نينوى، أنّ الملك الآشوري سرجون الثاني (721-705 قبل الميلاد) وبخ مسؤولًا محليًا في أور لأنه كتب رسالته للملك باللغة الآرامية، كذلك في النقوش البارزة الآشورية صور بعضها الكتبة الآراميين مع الكتبة الأكديين، مما يدلّ على الأهمية المتزايدة للآرامية.
وأضاف هاكل أنّ "هذه الأمثلة القليلة كافية لإظهار أنّ الآرامية اكتسبت وجودها على الأرض باستمرار على حساب الأكدية، فأصبح لها موطئ قدم بين الآشوريين والبابليين حتى أصبحت اللغة الأولى، ولمعرفة كيف حدوث ذلك لا بدّ من الإجابة على سؤالين مهمين، هما متى اختفى آخر متحدث للأكدية؟ على الرغم من أنها كانت مستخدمة في المدرسة والأعمال العلمية والطقوس الدينية، ومتى توقف التعليم المسماري التقليدي والكتابة المسمارية بشكل عام؟".
ويكاد يجمع المؤرخون بأنّ الشكل التاريخي الأخير للأكدية لم يعد لغة منطوقة في الفترة ما بين 620 و480 قبل الميلاد، وعمومًا فأنّ استخدام اللغة الأكدية ظل موجودًا في جميع المجالات اللغوية الاجتماعية، فالنخب الحضرية التقليدية للمدن البابلية القديمة (مثل بابل وبورسبا وأوروك) والمتميزة عن الطبقات الاجتماعية الأخرى من حيث النسب والثروة والمكانة والوظائف والمشاركة الفاعلة في العبادات، كان لها حظًا من التماسك الاجتماعي، الأمر الذي شجع على استخدام الأكدية كعلامة مميزة لهوية هذه النخبة، بالإضافة إلى تراثها الأدبي الغني ومكانة المتحدثين بها، ومن المفترض أن استخدام الأكدية في السياقات الدينية ضمن الطابع المؤسساتي والقانوني للدين يعزز الدوافع الحفاظ عليها.
ويلفت هاكل إلى أنه "في الفترة التي أعقبت الثورات البابلية الفاشلة ضد الملك الأخميني خشايارشا الأول (484 قبل الميلاد) كانت قد تسببت في حرمان العديد من أعضاء النخب الحضرية التقليدية من وسائلهم الاقتصادية وإبعادهم عن مواقع السلطة، بل ربما تم طردهم من المدن في ذلك الوقت". و أدى ذلك إلى انهيار النظام الكهنوتي القديم الذي سيطرت عليه تلك النخب، وكذلك ـ والكلام لهاكل ـ فإنّ إلغاء نظام الرواتب أدى إلى نقص مفاجئ في موظفي المعبد مما تطلب اندماج الغرباء من طبقات اجتماعية مختلفة، وبالتالي تعطيل التماسك الاجتماعي ـ اللغوي للأكديين.
ويبدو أنّ التغييرات الاجتماعية اللغوية الأخرى التي لم تكن مرتبطة مباشرة بالثورات قد اكتسبت زخمًا، ومنها (الرسمنة) التدريجية للغة الآرامية، كلغة مشتركة في نهاية القرن السادس قبل الميلاد في المجتمع البابلي، وبرغم الضربات التي توجهت للنخب البابلية الناطقة بالأكدية، تظهر بعض المصادر أنّ مجموعة كبيرة من المتحدثين، أو بالأحرى عدة مجموعات معزولة جغرافيًا في المناطق الحضرية، استمرت في الاعتماد على الأكدية للتواصل حتى القرن الثاني قبل الميلاد، خصوصًا في النصوص الأدبية والعلمية والطقسية الدينية، والإدارية والقانونية، أي في المجالات التي تمثلها هذه النصوص (التعليم ، الدين ، الأعمال) والعمل والأسرة وغيرها.
وبحلول الوقت الذي تمت فيه صياغة أحدث الوثائق الإدارية المعروفة لنا (حوالي 90 قبل الميلاد) كان بعض الكتبة قد احتفظوا بمعرفة كافية باللغة الأكدية لمواصلة كتابة هذه النصوص بشكل صحيح، مما يشير إلى أنّ مجتمع الكلام الأكدي بأكمله لم ينتقل بالفعل إلى الآرامية، أما الجيل الأخير من العلماء (المرتبطين بالمعبد) القادرين على إنتاج مثل هذه النصوص بالكتابة المسمارية، فقد ماتوا في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، بينما بقي القليل من "المنجمين" ذوي الكفاءة الكتابية المنخفضة، ولم تعد كتب الأبراج والنصوص الفلكية الأخرى مكتوبة بخط مسماري، وهو أنه لم يعد يستخدم بأي شكل في وقت مبكر من الألفية الأولى للميلاد، في الوقت الذي تحول فيه أحفاد الآشوريين والبابليين إلى الآرامية.