لا تزال الجثث عائمة في مياه دجلة بين مفقود وآخر غيّرت ملامح وجهه المياه وبين من أخذته الأمواج بعيدًا، وعلاوة على كل هذه المأساة وجراح الناس، يأتي السياسي ليخطط للصفقة الجديدة التي تأتي بـ"محافظ" على مزاج حزبه، وبما يوائم ثرواته الكبرى. لم تجف دموع ذوي الضحايا ويتحدث بعض السياسيين بـ"محافظ نينوى" الجديد بلغة هي كمن يرمي الملح على جروح أجساد الأطفال والنساء الطافية في نهر دجلة، ولا يزال نداء الاستغاثة الذي قتل الكثير من العراقيين العاجزين عن تلبيته في ظل دولة عاجزة وحكومة عجزت عن توفير الأمان من كل نواحيه في عراقنا.
بعض السياسيين خطّطوا لصفقة جديدة لتنصيب "محافظ نينوى" الجديد كما يريدون وعلى أمزجة أحزابهم ولا يزال بعض ضحايا "العبّارة" تأكلهم المياه في دجلة!
محافظ الموصل، نوفل العاكوب، المثير للجدل والريبة، وكل ما هو غريب وعجيب في بلد الغرائب والعجائب تمت إقالته من منصبه بعد تصويت الأغلبية داخل البرلمان على وقع كارثة العبّارة التي أكلت أكثر من 100 شخص، هي إقالة بلا أدنى معيار للتحقيق بكل ما مهد لهذه الكارثة الإنسانية، في نظام المحاصصة والطوائف يأتي العقاب كمكافأة للفاسد، أما عن طريق إقالته مع تقاعد مجزي ومريح أو نقله لمكان آخر كأن يكون سفيرًا في دولة أوروبية أو عربية أو مستشارًا لوزير ما.
اقرأ/ي أيضًا: إساءات بالجملة وتورط مع المليشيات.. من سيخلف العاكوب بعد أن غرق بجثث الأطفال؟
إن محاكمة النتائج بطريقة متسرعة دون البحث عن الجذور ودون محاسبة تشعر الناس بجدية الدولة في القضاء على المأساة وعدم تكرارها هي كارثة بحد ذاتها، إذ أن نماذج سياسية "فاسدة وإرهابية" كثيرة تدعم الفكرة التي أكتبها في هذا المقال، وهو الآن يتحدث ويحلل ويصرح من على شاشات التلفاز كما لو كان فارسًا منتصرًا وترجل من جواده، لكن ما حجم العاكوب كـ"متهم" أمام أسماء أخرى تسببت في دمار مدن بأكملها، ولم يسلم منها البشر والشجر والحجر، وهي الآن تمارس عملها السياسي وكأن شيئًا لم يكن، بل وتقرّر من يصلح لهذا المنصب التشريعي، ومن ينفع لهذه الوزارة.
المحافظ العاكوب، نموذج فشل محلي أنتجته دوائر الفساد المركزي، وهو يمثل حلقة لسلسلة متكاملة في جميع محافظات العراق، المحافظ يد الحزب الضاربة في عمق الدولة، ولو بحثنا في سير المحافظين جميعًا، سنجد أغلبيتهم فاشلون، إضافة إلى أخلاقياتهم في التعاطي مع مسؤولياتهم وإدارة المؤسسات المحلية. كان العاكوب يضرب الناس ويصرخ بوجوههم دون حساب لكرامتهم الإنسانية. إنهم أدوات نافذة في المحافظات التي تعتبر موردًا آخر لأحزاب المحاصصة، فلا عجب إذًا من الصفقات والسرقات وانعدام البنى التحتية وغياب الخدمات والكوارث إن كان مثل العاكوب محافظًا.
الموصل تعيش حالة استثنائية مرعبة وقد تكون مؤهلة للانفجار بأية لحظة، في ظل صراع سياسي "ابتزازي"، تتحكم به القوى المسيطرة التي تمارس الإهانة بأبشع صورها بحق مواطنيها لكونهم ضحايا فشل سياسي وخراب تجربة ما بعد سقوط برلين على يد الحلفاء تُعاد على نحو قد لا يكون مختلفًا في صور الإذلال والإكراه والتجويع والإهمال. الموصل تحتاج إلى من يتعامل معها بحذر كما لو كنت تُفكك قنبلة، التعالي يضفي طابع المبالغة والمثالية والرومانسية على مواطن ينتمي لبيئة مزقها العنف والجهل والظلم والتمييز الطائفي. مواطن يبكي حين يجوع ويحير في توفير الطعام لأطفاله، يبكي حين يفيق من النوم وحين يذهب إليه أيضًا، ويبكي حين يطالع الحشود وحين يكون لوحده ، في الشتاء لا يبكي بل ينتحب، وكأنه عبارة عن غيمة تُعربد فيها العناكب، كيف إذًا لأحدهم أن يواصل حياته بعد أن تُنزع طمأنينته، مثل ما تنزع النار الجلد؟ نحن نشبه بعضنا إلى حدٍ ما، بموتنا بحزننا وخرابنا المستمر في جميع المحافظات العراقية.
قبل سنوات كان هناك حدثًا مشابهًا لعبارتنا المنكوبة، لكنه يختلف في مضامين التعامل الإنساني والقانوني من منطلق الشعور بالمسؤولية، وليس التشبث بالكرسي كالجرذ في قطعة صمغ، في كوريا الجنوبية تحديدًا وفي عام ٢٠١٤ انقلبت عبارة لتلاميذ في الثانوية في رحلة مدرسية على متنها أكثر من ٤٧٥ راكبًا، على إثرها تناقلت وسائل الإعلام صفعة المواطن الكوري المنكوب بولده الغارق لرئيس وزراء بلاده على الهواء مباشر، كان حدثًا ودرسًا ملهمًا بذات الوقت وضع تفصيلًا دقيقًا لما تعنيه كلمة مسؤول ومواطن، بقي رئيس وزراء كوريا واقفًا مطأطأ الرأس يلوذ بالصمت كتعبير عن حزنه وتقصيره ويبدي أسفًا بالمواساة على حافة البحر مع أهالي الضحايا، طبعًا مع إحالة جميع من كان مسؤولًا أو مقصرًا إلى القضاء والمحاكمة.
يحرص مسؤولنا العراقي على الظهور مبتسمًا من عمق المأساة والحزن في محاولة لترسيخ مفهوم أن السياسي فوق المواطن مهما كان نوع مصابه وفاجعته!
بينما مسؤولنا يحرص على الظهور مبتسمًا ليبدي بوضوح حجم الاستهتار بدم الإنسان العراقي في محاولة لترسيخ مفهوم السياسي فوق المواطن مهما كان نوع المصاب والفاجعة. فقط في بلاد كهذه جمعت كل اللابالية واللامسؤولية لتتجلى في مواقع القرار حيث يحدث تصرفًا فجًا من هذا النوع دون شعور بـ"الكارثة الكبرى" التي تصل إلى الجذور لإصلاحها، وإلا كيف نفسر "ابتسامة" العاكوب على أنين الباحثين على غرقاهم ليلًا؟!.
اقرأ/ي أيضًا: