ليس خبرًا جديدًا أن تتعرض وسيلة إعلام للتهديد في العراق. لا زلت أذكر مشاهد اعتداء القوات الأمنية المتكرر قبل عشر سنوات على مراسل تلفزيون أثناء برنامج صباحي شهير، حتى صار التضييق عليه ولكمه روتينًا يوميًا.
النظام الذي قتل الصحفي جمال خاشقجي خارج أراضيه قد يشكو للحكومة العراقية والمجتمع الدولي اضطهاد حرية الرأي الذي تعرّض له في بغداد
حوصرت الكثير من القنوات الفضائية والصحف لمجرّد أنها تناولت تقريرًا أو تعرّض ضيفُها بنقد يمس شخصية أو جهة دينية أو سياسية، ناهيك عن عمليات الاغتيال والتهديد والملاحقة التي طالت الكثير من الصحفيين، حتى جاءت لحظة الأول من تشرين الأول لتكشف السلطة وأحزابها نزعتها الدكتاتورية المقيّدة بحكم الواقع، حين اقتحم مسلحون علنًا مقرّات الفضائيات وأغلقتها بعد العبث بمحتوياتها، بل وصل الحال إلى هجوم بطائرة مسيرة على إحداهنّ!
اقرأ/ي أيضًا: بعد اقتحام mbc عراق.. الكاظمي أمام اختبار جديد لـ"سيادة القانون"
لا ننطلق في إدانة عملية اقتحام قناة (أم بي سي عراق) على خلفية تقرير لها تناول تفجير السفارة العراقية في بيروت، من موقع الدفاع عن ذات المؤسسة وموضوعيتها وأجندتها، بل من منطلقنا نحن المدافعين عن الحريات الصحفيّة وسيادة القانون الذي يُمكن الاستعانة به لمحاسبة وسيلة الإعلام المضللة والمسيئة بالنسبة للمتضرر. كما أن التوقف عند الإدانة أصبح مملًا في العراق وعالمنا العربي، لذا سنؤشر بعض الملاحظات.
"محتجون موالون للنظام يقتحمون مقر قناة فضائية ويغلقونها احتجاجًا على تقرير لها وصف زعيمهم بالإرهابي... ".
حسنًا، يُمكن لهذا الخبر أن يكون ساخرًا لصحفي غربي غير مطّلع على نمط أنظمتنا؛ لكنه ليس كذلك بالنسبة لنا. إنه الواقع الكئيب الذي نعيشه هنا، حيث يُبرر "مثقفون" وصحفيون وسياسيون بحماسة مثل هذه الأعمال وهم في ذات السياق الذي يحاولون فيه تمييز أنفسهم (طوائفهم.. أحزابهم) عن التنظيمات التكفيرية والمتطرفة.
يتفهّم المرء ردود الفعل الغاضبة "الانفعالية" من الجموع الدينية حين يتعرّض رمزهم التاريخي لإساءة ما، خاصةً حين يتوفر العاملان: الشخصية المقدسة واللحظة الانفعالية؛ لكن ما فَعله مؤيدو أبو مهدي المهندس، والذي يبدو منظّمًا وليس عفويًا، لا يمكن تفهّمه حتى في إطار المصلحة الشخصية، ونحن نشك في أن أحدًا من المنظّمين سأل السؤال التالي: لماذا سنقتحم قناة فضائية في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟
من حيث الوسيلة، يبدو المشهد كئيبًا، أن يُرهِب أنصارُ رجلٍ وسيلةً إعلامية اتهمته بالإرهاب ليثبتوا أنه ليس كذلك!
لناحية الغاية، أعتقد أن تصريحات وتعليقات السياسيين والصحفيين المنتفضين ضد المحتوى الإعلامي كافية لتلخّص الهدف من هذا الاقتحام: ألّا تُكرَّر هذه الإساءة.
والغاية من كتم الأفواه المسيئة كما نفهم هو عدم التطبيع مع الإساءة ذاتها؛ لكن ما لا يستوعبه المنظمون ومؤيدوهم أن نسبة كبيرة من الجيل الجديد لا يعرف وغير مهتم بحادثة السفارة، ذلك قبل أن يُنبّههُ المقتحمون لتفصيلة تأريخية سيقرأها بمفاهيم العام 2020 أو بالمفردات اللغوية التي يستخدمها المنظمون ذاتهم ضد التنظيمات الإرهابية، بعد أن فُتح له باب الفضول والسؤال عن حادثة العام 1981.
وإذا أُريد كتم الأصوات دون حسابات أخرى، يُمكن للطرف الثاني استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، او استبدال وسيلة إعلامية بأخرى، ويُمكن لها أن تبث ما تشاء للداخل العراقي دون أن تتواجد على أراضيه حيث يُسمح لأنصار المهندس النيل منها، لكنهم سيكونون الآن أمام مَهمة نكران الفعل المُثار عن زعيمهم أو تبريره في النقاشات الداخلية الضيّقة.
إن النظام الذي قتل الصحفي جمال خاشقجي خارج أراضيه قد يشكو للحكومة العراقية والمجتمع الدولي اضطهاد حرية الرأي الذي تعرّض له في بغداد. كان يُمكن لتلك الجموع أن تلتف حول فعالية أو عمل فني أمام مقر القناة يُجسّد قتل خاشقجي لو أراد المنظمون إحراج السلطات السعودية ضمن إطار الحرب الإعلامية التي ـ على حد متابعتي ـ لم تربح المملكة فيها معركة أمام خصومها لكثرة الإشكاليات التي تصلح كموادٍ مثيرة للمشاهد. لكن جيش البطالة المقنّعة في اتحاد الإذاعات الإسلامية من الصحفيين شبه الأميين الذي واجه المتظاهرين بتهمة "جوكر" حتمًا لا يَصلح لمواجهةٍ من طبيعة مهنته.
قرأتُ تعليقًا لأحد (الإعلاميين) يقول فيه مدافعًا عن اقتحام القناة، إن السعودية "لا تحترم ذكائنا ولا تتابع قنواتنا ولا تتأثر بما نقول..". وإذ لا يَشعر هذا الإعلامي بالحرج مما يقول، إلا أنه لخّص الهدر المالي الهائل على الكم الهائل من وسائل الإعلام الحكومية والحزبية، وثقافة النخب الحاكمة التي أدت إلى استعراض فاشل للقوة على قناة فضائية في عاصمة دولة "ديمقراطية".
إذن، الخروج بموقف أمام الأنصار، إضافةً إلى الرسائل السلبية التي أوصلها المنظّمون لإعلام ودول العالم، قد يكونا ـ فقط ـ ضمن المسائل المحسوبة من المنظمين لناحية المنافع الجهوية قصيرة الأمد.
الدفاع عن الحريات الصحفية هو نقطة الاستناد أمام عواصف التغيرات السياسية التي قد تضطرك غدًا للتعامل مع ذات الوسيلة الإعلامية التي تهاجمها اليوم
نحن لا نطلب ما هو غير موجود في الصدور والعقلية المقابِلة التي نتاولها ونعلم ما تختزنه، لكن هناك ضرورة للإدانة والتوثيق دائمًا وأولًا، وفرصة لتحفيز الذهن على التفكير في بعض التفاصيل، والتذكير بالأسباب التي وضعت العراق قبل سبع عشرة خطوة عن المركز الأخير في العالم لناحية الحريات الصحفية، ويبدو أننا نسير قُدمًا نحو الأسوأ.
اقرأ/ي أيضًا: MBC في رمضان... شاشة الذباب
ملاحظة أخيرة، لقد أثار تواجد قناة الجزيرة أمام مقر (أم بي سي عراق) سخرية مدونين عراقيين أرجعوه إلى التغيّر بطبيعة العلاقات في المحاور الإقليمية، وهو درس للنخب الحاكمة في كيفية التعامل مع وسائل الإعلام التي ستكون معك أو ضدك بحسب الظرف السياسي. ودرس أخلاقي للصحفيين والمثقفين في أن الدفاع عن الحريات الصحفية هو نقطة الاستناد أمام عواصف التغيرات السياسية التي قد تضطرك غدًا للتعامل مع ذات الوسيلة الإعلامية التي تهاجمها اليوم.
يُمكن للسلطات العراقية تخيّل لو أن "الجزيرة" غطّت انتفاضة تشرين بشيء من حماستها المعهودة في الثورات العربية عام 2011، وبغض النظر عن سبب هذا الغياب عن ساحات الاحتجاج الشعبية والتواجد في وقفة ضد وسيلة إعلامية، سواء أكان بسبب لعبة الكراسي في العلاقات الدولية، أو أنه انكفاءٌ بعد الفوضى التي أعقبت الثورات والثورات المضادة، فأن البرود الذي تعاملت به أقوى وسيلة إعلامية على المستوى الإقليمي لم يكن بسبب اقتحام مقر لها أو ركل مراسلها ومصوّرها.
اقرأ/ي أيضًا: