يجلس الرجل المعمّم في العراق القرفصاء على منبر عال ليسيّر حياة العامّة. يبدو سعيدًا ومُسيطرًا على الجميع لأنّ كلامه لن يواجه بالتشكيك، فهو وحده من يمتلك الحقيقة كاملة بشأن أي شيء وفي كل شيء. يتحدّث في العلم والدين والمجتمع والسياسة. هو العارف الأوحد الذي يزداد شراسة كلما أخذ العامّة كلامه وكأنه منزّل وغير قابل للمناقشة.
في العراق، رجال دين يتحدثون عن ارتباط فوز برشلونة المستمر برضا الإمام علي ابن أبي طالب عنهم
لقد تطوّر الروزخون في المذهب الشيعي من حافظ لقصّة مقتل الإمام الحسين وسارد لها بطريقة دراميّة، ليؤثر في الجميع ويبكيهم ويحثّهم على اتخاذه مثلًا أخلاقيًا يحتذون به في تسيير شؤون دنياهم - مقابل حصوله على أموال لقاء جهده كحكواتي- إلى دارس للعلوم الدينية في حوزات مدينتي النجف في العراق وقم في إيران، ليصبح "خطيبًا دينيًا". إلا أن هذا الأمر لم يغيّر من الواقع شيئًا. لا يبدو أن الدراسة طوّرت من عقول الكثير، ولا يبدو أيضًا أنّها ساعدت في تثقيفهم دينيًا بدليل اعتمادهم على المراجع التاريخية المتخمة بالأخطاء أساسًا. رجل الدين، في الغالب، هو الروزخون ذاته، وتغيير التسمية لا يعني انقلابًا على المفاهيم القديمة.
الروزخون، الذي يُعد شهر محرّم موسمًا لبروز نشاطه، يُضيف من عنديّاته أحداثًا، هو مشدود إلى وجوه العامّة الجالسين أمامه، وكلما فغروا فاهًا متعجّبين على إمكانيته بسرد القصص، كلما ازداد تزويرًا ومبالغة وتضخيمًا في سرد التاريخ، وعلى هذا الأساس، تخلّق رجال دين يتحدثون عن ارتباط فوز برشلونة المستمر برضا الإمام علي ابن أبي طالب عنهم، أو أن هتلر دعا الجنود إلى الثبات كما ثبت أبو الحسنين في معاركه، بالإضافة إلى خلقهم كتّابًا أجانب وهميين للتحدّث عن فضيلة الإسلام وآل البيت.
ولا يبدو غريبًا، والحال هذه، أن يكون الروزخون -الذي يأخذ المساحة الأكبر من الحيّز العام- عالمًا سياسيًّا، يسقّط هذا السياسي ويرفع ذاك، يحقّر هذه الطائفة ويزيد من وجاهة تلك.. هكذا بدأ يتغوّل الرجل الجالس القرفصاء على منبر عالٍ وهو يحرّك يديه في الهواء، فصار يدلّ الحكومة على مكامن الأخطاء ويحرّضها على إلغاء القوانين والمؤسسات، ويدلّها على "الصواب" في حل المشاكل في إدارة الدولة.
والروزخون، صاحب سلطة الخطاب الأعلى في هذه البلاد، بدا مؤثرًا على واقع الإعلام، فبرامج Talk Show التي تعرضها الشاشات مساء كل يوم في العراق، باتت تنحى منحاه في طريقة الخطاب و"دراميته" في سرد الأحداث اليوميّة ومآسي المواطنين في العراق، بل إن الكثير منهم أخذ يسرد القصص الدينية علامة على الفارق بين زمنين كانت فيه الشخصيّات الإسلامية عادلة، أما اليوم فلا عدل يُذكر. وإذا كان الإعلاميون قد تأثّروا بخطاب الروزخون مؤخرًا، فإن أغلب ساسة العراق يمتلكون ثقافته منذ صباهم لجهة تحدّرهم من أحزاب إسلامية، حتّى إن بعضهم مارس المهنة أيّام المنافي، ولذا ستبدو العلاقة بينهما وطيدة، الأمر الذي دفع بعض الساسة إلى توظيف هؤلاء من أجل "تلميعهم" أثناء الانتخابات البرلمانية والمحليّة التي تجري في العراق كل أربعة أعوام
كل هذا لا يبدو غريبًا في بلاد تعيش أزمات سياسية واقتصادية منذ أكثر من أربعة عقود، إلا أن الغريب هو محاولة إضفاء صفات "الثقافة الشعبيّة" و"المسرحة" على الروزخون، إذ أخذ الكثير من الكتّاب يفرد مقالات للتحدّث عن أهميّته في المجتمع و"جماليته" في قصّ الأحداث بحكواتية مبهرة، ووصفه بأنه جزء لا يتجزأ من تاريخ البلاد.. لكن هل هذا جديد على الكتبة أيضًا؟
اقرأ/ي أيضًا: