تُعد شخصية الشاعر محمد مهدي الجواهري من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في الوسط الثقافي، نتيجة للتحولات الكبرى التي مرت بها حياته، فهو ابن عائلة علمية معروفة بالأدب والتدين، الأمر الذي جعله في بادئ الأمر رجل دين يرتدي العمامة، ووصل إلى مراحل متقدمة في الحوزة العلمية تماشيًا مع البيئة التي وُلد فيها وهي بيئة النجف، مركز الحوزة العلمية في العراق.
المفارقات التي مرت بها شخصية الجواهري من رجل دين إلى شاعر، مدح الثوار حينًا والطغاة أحيانًا أخرى، جعلته عرضة للنقد والنقاش في كثيرِ من المناسبات
لكن في فترة من فترات حياته يخلع الجواهري العمامة ويترك الخط الديني، ناذرًا شخصيته للأدب وأغراضه، مرتادًا للحانات واصفًا أدق تفاصيل المرأة حساسية، كما مدح الرؤساء وبعض المسؤولين، هذه المفارقات التي مرت بها شخصية الجواهري من رجل دين إلى شاعر، مدح الثوار حينًا والطغاة أحيانًا أخرى، جعلته عرضة للنقد والنقاش في كثيرِ من المناسبات، وهي نتيجة لأن الجواهري كما يرى بعض النقاد الذين اهتموا بدراسة حياته وشعره يجعل من مصلحته الشخصية قيمة عليا، الأمر الذي جعله يدور حيثما تدفع به أهواء السياسة مثل دوارة الرياح.
اقرأ/ي أيضًا: الأنا العليا.. استبداد الحداثة
يقول الدكتور عزمي بشارة في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة"، إنّ "محمد مهدي الجواهري أحد أهم شعراء العربية، والذي كان صاحب جنسية إيرانية، حين ضغط الوزير علي الحصري لتعينه معلمًا للغة العربية، وكان يساوم على أخذ الجنسية العراقية إذا كانت امتيازات الوظيفة ملاءمة"، ثم يذكر كيف جنّسه وزير الداخلية لغرض تعيينه مدرسًا للغة العربية في المدارس الابتدائية، وبعد فصله من التدريس لكتابة أبيات من الشعر وجد فيها (وآخرون في الوزارة) تعبيرًا عن عقلية شعوبية لا يجوز أن تُسلم تربية الجيل الناشئ. وأبيات القصيدة التي يقتبسها هي:
لي في العراق عصابة، لولاهمُ ـ ما كان محبوبًا إلي عراق
لا دجلة لولاهم، وهي التي ـ عذبت، تروق ولا الفرات يذاق
هي "فارسٌ"، وهواؤها روح الصَّبا ـ وسماؤها الأغصان والأوراق.
عبود الكرخي.. أول من ذم وقدح وشهر بالجواهري
يُعد الشاعر العامي الملا عبود الكرخي أول من انتقد الجواهري وذمه، في قصيدة من (45 بيتًا) كانت بعنوان (وين ذبيت العمامة) استخدم فيها الكرخي أقذع الالفاظ وأعنفها "وين خليت العمامة/ الوصخة يا زفر الجهامة. كلمن براس شهامة/ يقذفك ويكَول كافر"، الأمر الذي دفع الجواهري إلى رفع دعوى قضائية ضد "الكرخي" جراء هذه القصيدة ذات النقد المقذع.
ويروى أنه عندما جرت المحاكمة وكان حبزبوز/ نوري ثابت، أحد الحاضرين، سأل القاضي الملا عبود عن الغاية من نظمه القصيدة؛ فأجاب: هذه القصيدة نظمتها من العهد العثماني، وما لها علاقة بالجواهري.
فقال له القاضي: طيّب، ولكن ورد فيها اسم (أوتيل الجواهري) فهل كان في بغداد (أوتيل) بهذا الاسم في العهد العثماني؟
فلم يجب الملا عبود على سؤال القاضي، بل التفت إلى (نوري ثابت) وقال: (على بختك نوري.... هاي فاتتنه)، فضجت قاعة المحكمة بالضحك وأعتبر القاضي قول الملا عبود اعترافًا وإقرارًا منه فحكم عليه بالغرامة".
هجوم آخر على الجواهري "الشاعر الهزيل"
في عام 2008 هاجم الشاعر والناقد حسين القاصد محمد مهدي الجواهري، أثناء الجلسة التي اقامها له نادي الشعر بالبصرة، حيث قال القاصد "لولا الأنظمة السياسية لما كان الجواهري شاعرًا ولن يكون أبدًا"، ووصف الجواهري بـ"الشاعر الهزيل"، الأمر الذي جعل بعض الحضور يغادرون القاعة احتجاجًا على ما طرحه القاصد، والذي بدوره كتب مقالًا يحاول فيه أن يعدل عن رأيه السابق في الجواهري فجاء فيه "من مسقط رأس الكون، من أول البوح، من أول الكلام، من العراق الذي جعل الله منه كل شيء حيا، من الكوفة الأولى المدينة الحكم على اللغة، أطل الجواهري على العالم ليصبح شاعر العرب الأكبر بل شاعر العرب وما سواهم".
سهام النقد توجه مرة أخرى إلى الجواهري
في 19 أيلول/سبتمبر الجاري، نشر الشاعر أسامة غالي، مدير تحرير مجلة الثقافة العراقية، صورة من صحيفة الجمهورية والتي كانت تصدر في زمن النظام السابق، نشر فيها مطلع قصيدة للشاعر الجواهري يهزأ فيها من أمريكا، مرفقة مع صورة صدام حسين وإلى جانبه الجواهري، أكتفى غالي بأن يعلق على هذه الصورة بـ "مثلًا".
الأمر الذي عده البعض طعنًا في شخصية الجواهري وتقليلًا من شأنه، مما أدى إلى فتح جدال كبير تخلله الطعن بالأعراض من قبل البعض، وجعل الناس ينقسمون إلى معسكرين، يتبادلون الاتهامات، فكتب مهدي النهيري وهو شاعر من النجف، على صفحته في "فيسبوك": "لم أكن اعلم، أن الجواهري نام مع هذا العدد الكبير من أمهات الموتورين الذين يكتبون الآن ضده".
فيما كتب الشاعر حميد قاسم في حسابه على "فيسبوك" منشورًا مطولًا تحدث فيه عن الجواهري، مستنكرًا في الوقت ذاته ما اسماه حفلة الشتائم التي لاقاها من المدافعين عن الجواهري، قائلًا: "أنا لا أحبه ولا أكرهه، رحمه الله، فهو شاعر متوسط الموهبة، لست في وارد منافسته، ولا هو ينافسني (قابل أنى بگده أو بشهرته؟ لو راح أعيش 100 سنة مثله؟)".
أضاف قاسم "لقد لقيت بسبب رأيي هذا (الذي كتبته وجاهرت به في أكثر من مكان ومنها اتحاد الأدباء يوم كنت عضوًا في مجلسه المركزي) الكثير من العداء والكراهية والعنت والازدراء وحتى الإقصاء، مضيفًا "لا الجواهري ولا غيره يستحق هذا التقديس الوثني الساذج المتعصب.. (لا موقفًا ولا شعرًا)، ولو فحصته نقديًا لرميت جل شعره في الكناسة أو القمامة التي رمى فيها عمامته حين عينوه في البلاط الملكي".
وتابع قاسم " شدعوة.. تلغون كل تاريخ الأدب العراقي ومنجزه الإبداعي والقيمي وتصادروه ليكون اتحادنا ليس اكثر من "اتحاد الجواهري"!؟ متسائلًا "أتروننا إمعات بإزاء شاعر اعتيادي لم يستنكف أن يدور ( مثل شاعر باديةٍ مداح يطوف بربابته على خيم شيوخ العشائر ومضايفهم) على قصور الملوك والرؤساء العرب مناشدًا هذا وذاك أن يسعف فمه (أو يسدّه) بالنقود، معتاشًا على العطايا وخرافات العامة وأكاذيب السياسة، وبروباغندا اليسار التي ألّهت السياب قبل أن تمرغ أنفه وحياته بالوحل وترفع البياتي بدلًا منه، قبل أن يستميله نظام البعث ويعيّنه ملحقًا صحفيًا في سفارته بمدريد؟!". فيما لفت إلى أن "اتحاد الأدباء منظمة مهنية وهو اتحادي وليس اتحاد الجواهري".
بعد يوم واحد جاء رد الشاعر علي وجيه على منشور الشاعر حميد قاسم حيث كتب منشورًا على حسابه في فيسبوك جاء فيه "كتب الأستاذ حميد قاسم رأيًا بالجواهري، وأفهمُ تمامًا ما يقصدُ، وأتفقُ مع نصف رأيه حين أنكر على اتحاد الأدباء تسمية نفسه بـ(اتحاد الجواهريّ)، مهنيًا: ملاحظته دقيقة وصحيحة، رغم أنني درويش من دراويش الجواهريّ".
أضاف وجيه "لا أتفق مع العزيز أبي مجد، بكون الجواهري شاعرًا اعتياديًا، الجواهري ليس شاعرًا اعتياديًا، بالأقل أسلوبيًا وبالقراءة الثقافية، فالجواهري شاعرٌ يشبه مجتمعه، بكلّ ما فيه، من تناقضات حسنة وسيئة".
بيّن وجيه "أن سبب هذا المنشور هو دفاع مجموعة من الأصدقاء الأعزّة، عن الجواهريّ، بشتم الآخرين، والإساءة لهم، وهذا غريب جدًا، غريبٌ جدًا، لأن الشاعر مخلوقٌ حُر، ليس له صنم يسجدُ عند قدميه، لا الجواهري ولا أدونيس ولا مظفر ولا حسب الشيخ جعفر ولا سعدي يوسف... يوم نرفع الجواهري، أو غير الجواهري، لمرتبة التقديس، سيتهدّم بسهولة فيما بعد. الجواهري بشر، مُبدع، خلاّق، غاضب، مُخطئ، مُصيب، شجاع في مواقف، وضعيف بأخرى..". فيما عد وجيه رأي حسين القاصد من أغرب الردود حيث قال: "وأغربُ الردود، برأيّ، كان رأي الصديق د.حسين القاصد، فهو كان ذا موقفٍ حاد ضدّ الجواهري قبل 10 سنوات، وأحدث ضجة حينها، قبل الفيسبوك، لكنه دافع عن الجواهري بطريقةٍ لا تليق لا به ولا بالجواهري، ولا بحميد قاسم".
الأصنام الثقافية
وكتب الناقد أحمد معن الزيادي منشورًا بعنوان عن الجواهريّ وملحقاته، ما الذي ينتظرنا؟ حيث جاء فيه: "في اللحظة التي يخرج فيها العراق من حربٍ أكلت البلاد والعباد يأتي مثقفنا، المتعصب أكثر ممن يكاد يكتب أسمه، ليشتم أناسًا، فقط، لأن آرائهم لا تُناسب الخطوط الحمراء المتكدسة في عقله. اللحظة التي يتجه فيها العالم نحو مديات أوسع في كل شيء، فإننا، قبالة ذلك، نلوك ما انتجه الأولون، وبعصبية كبرى، وكأنه الحق المطلق وما سواه هباء. وهذا، تمامًا، ما قاله القصيميّ (نلد آبائنا وأجدادنا)".
وتابع الزيادي " الشعر، منذ نشأته الأولى، قائمٌ على أغراض أهمها: المدح لمَ هذا الهروب من الواقع ثم ما القيمة الإنسانية التي حملها شعر الجواهري، وهو الطفل النائم في أحضان كل الأنظمة، ما إن تُضرب مصالحه حتى ينقلب عليها (أنا حتفُهم ألِجُ البيوتَ عليهم ، أُغري الوليدَ بشتمهمْ والحاجبا) وهذه كتبها في سجون نوري السعيد، وهي ذات نبرة تحريضية واضحة على نظام عاش في كنفه عمرًا".
أضاف الزيادي "كما يمكن إحصاء قصائد كثيرة مدح الجواهري بها الملوك والوصي والسعيد. الجواهري يحملُ رايةً مكتوبٌ عليها (أنا معك ما دمتُ مستفيدًا منك) فلمَ هذا الدفاع المستميت عنه، سيما أنَّ الله لو أمدَّ في عمره لما أعترف بأحدٍ ممن يدافعون عنه".
واستنكر الزيادي شتم أمهات الناس من قبل بعض المدافعين عن شخصية الجواهري حيث قال "كيف لأحدٍ أن يشتم أمهات الناس، أمهاتٌ لا يعرفهن، ولأجلِ من؟! الجواهري؟ هل يُعقل هذا؟ كيف يجدُ مثل هذا مسوغًا لفعلته؟".
يذكر أنه بعد عام 2003، شاعت كثيرًا مثل هذه الجدالات حول شخصيات أدبية ودينية، لم يكن لهم أي موقف من نظام الاستبداد، بل على العكس اندمج خطابهم مع خطاب السلطة آنذاك، فخون بعضهم وبرر لآخرين نتيجةً للظروف التي ألّمت بهم، ودفعتهم إلى مدح النظام كعربون لسلامتهم وسلامة عوائلهم في ظل سلطة تريد أن تلون المشهد الثقافي برمته بألوانها.
اقرأ/ي أيضًا: