المراقب لردود الفعل المجتمعية على مستوى الناس البسطاء أو ما يسمى بالنخب الثقافية والسياسية، حول حوادث كبرت أو صغرت، سياسية كانت أم اقتصادية أم خدمية، أو تلك التي تتعلق بالاحتجاجات والثورات، يمكنه رصد حالةً واضحةً للعيان عنوانها: لوم الضحية.
يُلام الضحايا من قبل بعض أقرانهم دون التركيز على المذنب
يعمد بعض المنكوبين في بلادنا إلى لوم الضحايا بعد وقوع الحدث أو الجريمة، دون ذكر مُعتبر للمذنب أو المسؤول، في عطب آلي، أو انكسار، ولعل حالة الانكسار النفسي التي تعيشها مجتمعاتنا رسّخت هذا العطب الأخلاقي - الفكري مقابل تغول وتسلّط وفُجر الجهات الحاكمة أو الفاعلة في هذا الصدد، ونحن نرجّح كفة "العجز"، أو "الخوف" من شيء ما، سواء أكان من الحدث ذاته أو الجاني شخصيًا، على حساب نظرية "التعاطف مع الجاني" التي يذهب إليها بعض المفكرين في الغرب.
في اليومين الأخيرين، انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو تُظهر مواطنين يرومون السفر عبر إحدى شركات النقل الجوي، غاضبين من تأخر رحلتهم لساعات طويلة، وهم يهتفون ضد الفساد والشركة، التي تكرر أداؤها السلبي وإخفاقها في ضبط المواعيد وغير ذلك.
مرة أخرى: بإمكان رصد مئات التعليقات التي تلوم المسافرين: لماذا "تحجزون" تذاكركم على متن هذه الشركة سيئة الصيت؟!.
لا يتمهّل اللائم للحظة في توجيه لومه إلى أقرانه، في شعور يفضح العطب الأخلاقي - الفكري الذي أُصبنا به. ولو تأمل للحظة ببعض المعطيات الممكنة، على سبيل: أن يكون المسافر مضطرًا بسبب الموعد المطلوب، أو الوجهة المطلوبة، أو السعر المخفّض، أو أن شركة الحجوزات الوسيطة قد أقنعته بأن يتوجه إلى شركة الطيران سيئة الصيت. لكن الأسهل أن نلوم المسافرين، ربما لأن ذلك أكثر راحة للضمير، أو أن لوم الضحية يعكس حالة انكسار نفسي، واستسلام أمام الآخر المتسلط: قاتل، فاسد، لص، مقصّر،. إلخ.
لعل حالة الانكسار النفسي التي تعيشها مجتمعاتنا رسّخت هذا العطب الأخلاقي - الفكري
وكي نعقد المقارنة التي تربط هذا "الترند" بحالتنا المستعصية، لنسأل (افتراضيًا) هؤلاء اللائمين: ما الغاية من ذلك اللوم؟ - ربما ستكون الإجابة إننا نستهدف عزوف الناس عن هذه الشركة وبالتالي خسارتها، وهي إجابة تبدو لوهلة منطقية، لو كانت في سياق يشجّع على المعاقبة الجماعية، غير سياقنا، ولسببين:
- إن استخدام أقصى طاقة من الانتقاد واللوم اتجاه الناس لن "يصفّر" عدد المستهدفين. أي سيبقى من يُقدم على هذا العمل ولا يكترث لنصائحنا، أو لا من يسمعها بالأساس، بل من قد يعتبر شكوى المتضررين تماديًا، بمنطق أقرب لأسلوب المحتلين منه إلى القوى الوطنية.
- وعلى فرضية تساؤلية: ماذا لو كانت شركة الطيران - الشائع عنها إنها مملوكة لجهة سياسية متهمة بالفساد - أداة لغسيل الأموال؟.
وهنا، نفترض أن اللائمين "براغماتيون"، ونسأل ما هو أهم: ما الغاية من كسر معنويات المتمردين على فساد أو قتل أو تقصير؟
"ترند" اليوم سيذهب كما ذهب غيره، لكنه مناسبة للحديث عن هذا العطب الموجود في مجتمعاتنا. وُجِدت هذه الحالة خلال انتفاضة تشرين حين بدأ الغضب من مجزرة القناصين يخفت. صار بعض الناس يلومون الضحايا لأنهم خرجوا لمواجهة قتلة! - مرة أخرى نسينا الجلّاد وأمسكنا بالضحية.
يُمكن رصد هذه الحالة على نحو أوسع في ما يتعلق بالانتخابات والمشاركة والمقاطعة: يأس أغلبية المجتمع يقودها إلى مقاطعة الانتخابات، وتبقى أقلية مقتنعة أو مستفيدة من السلطة تشارك في الانتخابات وتنتخب ذات القوى. ومرة أخرى يعود اللائمون الكسالى إلى عادتهم غير الأخلاقية بترك اللصوص والقتلة ولوم المجتمع.. أي مجتمع؟ - المستهدف مجددًا هو "تصفير" عدد المشاركين في الانتخابات، دون النظر إلى استحالة هذا المطلب ووجود فئات مستفيدة وموظفين ومنتمين ومغيبين طائفيًا أو قوميًا.
بإمكان الراصد تعميم الفحص الذي نطرحه، للأحداث عامة، والتأكد من هذه "الظاهرة" في أبسط القصص وأكثرها تكرارًا: لا تُلام بلدية فاسدة لأنها لم توزع سلات النفايات في الأماكن الصحيحة والكافية؛ بل يُلام الذين يرمون نفاياتهم على الأرض، في استهداف لـ"تصفير" عدد الناس غير المنظمين والوصول إلى مجتمع نظيف مثالي 100%، مقابل مدير بلدية فاسد سعيد بهذه الانتقادات المجتمعية الداخلية، شأنه شأن مالك شركة الطيران التي ذلّت المسافرين ثم تلقى المسافرون اللوم من أقرانهم المواطنين، وشأن قتلة المتظاهرين في تشرين، وقس على ذلك كل فاسد أو مرتكب للآثام، من السعداء في هذه البلاد المنكوبة.
نميل إلى تفسير أكثرية حالات لوم الضحية في مجتمعاتنا إلى العجز أو الخوف من شيء ما، وليس التعاطف مع الجاني
ثمنة إغراق في لوم المُغتَصَبة وترك المغتصبين يُمكن ملاحظته ليس على الصعيد العراقي فحسب، بل العربي. ولعل ظاهرة لوم الضحية ليست حديثة أو اكتشافًا، خصوصًا بوجود من وضع أساسًا لتلك العبارة بعنوان لكتاب يصف هذه الظاهرة بأنها "آيديولوجيا تستخدم لتبرير العنصرية والظلم الاجتماعي ضد السود في الولايات المتحدة"، كما كَتَب آخرون في الموضوع ذاته.
في هذا الصدد، يفترض الدكتور عزمي بشارة أن يكون الغضب ضد المتسبب بالأذى، قوات الاحتلال مثلًا، حالةً طبيعيةً؛ لكنه يعود ليشير إلى شيوع اللازمة التي تلوم الضحايا، أو الثوار في مثال بشارة، ويعتبر تلك اللازمة "نتيجةً لغسيل الدماغ وبرمجة بواسطة استراتيجية بدائية" تعرّض لها أولئك اللائمون، وتدرّبوا بشكل متواصل "على قلب السبب والنتيجة"، قبل أن يبشّرنا بشارة بأن "التجارب أثبتت أن هذه المعادلة لا تنجح على المدى البعيد".
إن تحليل هذا التوجه وردّه إلى عطب أخلاقي أو فكري، أو إلى انكسار في مجتمعات سقطت في سلم الحداثة متدحرجة، مسار مفيد ومهم للبحوث النظرية، شرط أن يكون يُصحب بآلية عمل واقعية لإعادة الأمور إلى نصابها: الظالم ظالم والمظلوم مظلوم.
عودٌ على بدء، أقول للمفتونين بلوم أقرانهم: إذن لندعو إلى مقاطعة الشركة هذه لا طردها أو محاسبها، ولنقاطع التظاهرات لكي لا نُقتل، ونقاطع الانتخابات لكي لا ننخدع!، بل نقاطع الأمم المتحدة كما اقترحت في مقال سابق بسبب الأحضان التي جمعت أمينها العام مع رئيس عصائب أهل الحق قيس الخزعلي.
إنها أعطاب في سلوكياتنا وأفكارنا رسّختها حالة الانكسار التي نعيشها.