ينهمك الصف الأول في الفريق التفاوضي داخل التيار الصدري، بـ "حملة مراجعة" لأسباب تعثر مشروع التحالف الثلاثي، الذي قاده مقتدى الصدر، إلى جانب حلفائه مسعود بارزاني ومحمد الحلبوسي وخميس الخنجر، في مواجهة الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة الأقرب إلى إيران، والمؤتلفة في "الإطار التنسيقي الشيعي"، كما علم "الترا عراق".
يكشف مسؤول صدري عن تأثير كبير لعبه الصراع الحوزوي التاريخي في تعثر مشروع مقتدى الصدر السياسي
وتشير التقديرات الأولية للفريق الصدري إلى تشابك عدة عوامل مُعرقلة، بدا لافتًا أنّ من بينها صراع حوزوي قديم بين مرجعيتين، إضافةً إلى نشاط غير معهود من القيادي في الإطار نوري المالكي، فضلاً عن إهمال ملف التسوية مع جمهور المتظاهرين.
ينثر مسؤول في التيار الصدري ما بجعبته في حديث لـ "الترا عراق"، ويتحدث بضرس قاطع عن "دور لعبه جواد الخوئي ضد مشروع التيار الصدري".
نبذة عن التوتر بين الخوئي والصدر
والخوئي الابن، هو أحد أحفاد المرجع الراحل أبو القاسم الخوئي، الذي وُصِفَ بـ "زعيم الطائفة" الشيعية، نظراً لاتساع شريحة مقلديه.
تزامن نشاط المرجعين، الخوئي الأب، والصدر الأب محمد محمد صادق في فترة قصيرة من تسعينيات القرن الماضي.
يُصنّف أبو القاسم الخوئي كأحد رجال "الحوزة التقليدية" النجفية، التي لا تُفضّل التدخل في شؤون السياسة والحكم إلاّ بقدر محدود. ويُعتبر المرجع الحالي علي السيستاني وريث مدرسة الخوئي وأسلافه.
على النقيض ترى مدرسة ولاية الفقيه، التي يتزعمها حاليًا مرشد الثورية الإيرانية علي خامنئي، أن لدى الفقيه صلاحيات مفتوحة في الدين والسياسة والسلطة والعسكر.
بين المسارين، وُلِدَت مرجعية محمد محمد صادق الصدر، الذي وجه انتقادات شديدة "للحوزة التقليدية" ودعا إلى "الحوزة الناطقة"، كما رفض العمل تحت وصاية "ولاية الفقيه" علي خامنئي.
ترتبط التطورات بقضية مرجعية الصدر الأب وملف اغتيال عبد المجيد الخوئي في عام 2003
توفّي الخوئي عام 1992، وفي العام نفسه، كان الصدر قد أنهى "درّة تاج" مؤلفاته، وهو "موسوعة الإمام المهدي"، وقد تصاعدت حركة الصدر حينها وجمع حشودًا كبيرة من الأنصار، ورث معظمها ابنهُ زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر.
في حزيران عام 1992، أطلق نظام صدام حسين ما سُمّي بـ "الحملة الإيمانية" التي أتاحت انتعاش النشاطات الدينية.
وعبر 3 عقود، واصلت شخصيات على صلة بولاية الفقيه، أو بحوزة النجف، التلميح إلى أنّ مرجعية الصدر كانت مرضية لدى نظام صدام حسين، وهو ما شكا منه الصدر صراحة، لجهة خطورة تلك التهمة، التي تسببت قبل أيام، بمنع السلطات العراقية ظهورَ الإعلامي المقرب من إيران نجاح محمد علي عبر شاشات التلفاز، بعد أن أطلق تلميحًا بهذا الصدد.
شتاء العام 1999، اغتيلَ المرجع الصدر وسط النجف مع ولديه مؤمل ومصطفى، وتراجع التوتر بين ورثة الخوئي وورثة الصدر، حتى ربيع العام 2003، حين سقط نظام صدام حسين، وعاد عبد المجيد الخوئي، ابن المرجع، إلى العراق، وقُتل بعد ساعات من وصوله إلى النجف في حادثة شهيرة.
اتهمت أوساط سياسية، مقتدى الصدر، بالوقوف خلف العملية، وهو ما نفاه الصدر.
صيف العام 2003، تم نشر نسخة من مذكرة قبض بحق الصدر، لكن الأخير اعتبر إعادة التحقيق جزءًا من لعبة سياسية، مؤكدًا أنّ لا دليل يدينه.
"بصمات الخوئي"
بعد نحو عقدين، تعتقد شخصيات صدرية أنّ أوساط أسرة الخوئي "لعبت دورًا" في كسر النصاب البرلماني الذي كان يحتاجه الصدر لإمرار مشروعه.
يقول المسؤول الصدري إنّ أسرة الخوئي دفعت كتلة مستقلة إلى مقاطعة مشروع "الأغلبية الوطنية" لمقتدى الصدر
ولا تُظهر أسرة الخوئي اهتمامًا بالنشاطات السياسية المباشرة، بل تفضل الاتجاه إلى مجالات فكرية كمسألة حوار الأديان، لكن قناعة راسخة لدى بعض الصدريين، بأن دورًا سلبيًا لعبته الأسرة في تشجيع بعض المستقلين على الامتناع عن دعم مشروع "الأغلبية الوطنية".
يتهم مسؤول صدري، مقربين من أسرة الخوئي بالتأثير على كتلة برلمانية مستقلة: "كنا قريبين جدًا، انضم لنا عدد كبير من المستقلين والقوى الجديدة، وكنا بحاجة إلى نحو 10 نواب فقط، ونعرف أن كتلة مستقلة استجابت لتأثيرات أوساط الخوئي".
ويقول: "رغم عدم وجود دليل يدين التيار في قضية مقتل عبد المجيد الخوئي، لكن تلك القضية عادت إلى الواجهة من جديد، وقد ساهمت بشكل واضح في عرقلة مشروعنا".
هاتف المالكي
من جانب آخر، تنبّه زعيم كبرى قوى الإطار نوري المالكي، مبكرًا، إلى أنّ الصراع سيحوّل المستقلين إلى بيضة قبان، ولذا سارع إلى مد الجسور معهم.
تحدث "الترا عراق" إلى مجموعة من المستقلين في هذا الصدد، قال بعضهم، أنّهم تلقوا "مكالمات غير متوقعة من المالكي شخصيًا، وليس من مكتبه فحسب"، بحثت "ترطيب الأجواء وإمكانية العمل المشترك"، كما التقى آخرين على انفراد.
لم يكن يتوقع كثير من النواب الجدد، ومعظمهم من الشباب، تقربًا بهذا المستوى من رئيس الوزراء الأسبق، الذي انعكس حراكه بالفعل على تناقص المستقلين المتفاعلين مع الصدر.
على الضفة الأخرى، نشر الصدر مبادرته لكسب دعم المستقلين على حسابه في تويتر، طالبهم بالانضمام إلى تحالفه، ولم يعرض عليهم مشروع شراكة واضح. ولم تمض أيام حتى هاجم رئيس الكتلة الصدرية بعض المستقلين، الذين أكّدوا أنّهم "لم يتلقوا أي محاولات للتواصل والتفاهم من الصدريين، وأنّهم شعروا بلغة استعلائية من مبادرة الصدر، بينما منحهم المالكي احترامًا أكبر".
علم "الترا عراق" أنّ المالكي بادر شخصيًا إلى التقرب من نواب مستقلين عبر مكالمات خاصة واجتماعات منفردة
يقول المسؤول الصدري: "لم يكن تفاعل المستقلين بالمستوى المتوقع، ربما كان هناك بعض الضعف في التواصل، لكن المستقلين أيضًا لم يتحدثوا بلغة واضحة (..) كان بعضهم يفاوضنا ويفاوض قوى الإطار في الوقت ذاته".
محاولة فاشلة للقفز فوق شباط
راهنت أوساط صدرية على أنّ القمع الذي تعرض له جمهور النواب المستقلين من قوى محسوبة على الإطار التنسيقي، سيقود إلى ارتماء المستقلين نحو التيار الصدري بلا تردد، لكن ذلك لم يتحقق.
حاولت منصات صدرية ترغيب المستقلين بطريقة أثارت جدلاً حين قارنت بين "الاغتيالات والهروات"، معتبرةً أنّ الهجمات التي شنتها جماعة "القبعات الزرق" المنتمية للتيار الصدري ضد المتظاهرين في شباط 2020، كانت "أفضل" من الاغتيالات التي يُتهم بها خصوم التيار.
لم يكن تشجيع جمهور المستقلين على اختيار "الهراوة" فكرة مفيدة، بل تسببت برد فعل ساخر ومُستفز، وانعكس إهمال الملفات العالقة بين الصدريين وجمهور المحتجين على مدى حماس الأخير لتفضيل التيار الصدري على الإطار، خاصة مع تجاهل قضية مقتل المتظاهر مهند القيسي، الذي اضطرت والدته إلى مغادرة البلاد بعد اتهامها الصدر بقتل ابنها.
ويقرّ المسؤول في التيار بأنّ "تسوية الملف مع المحتجين كان سيساهم بجعل دعم حكومة الأغلبية فكرة أكثر شعبية"، لكنه يؤكّد أنّ "التيار منفتح على مراجعة الأخطاء التفاوضية إن وُجِدَت" وأنه "كما سبق أن أجرى تغييرات كبيرة على مستوى رئاسة الهيئة السياسية بعد الانتخابات، فإنه لن يكون مُستبعدًا أن تُسفِر نتائج المراجعة الحالية عن تصحيح مكامن الخلل، أو الإقدام على خطوات جادة لتسوية ملفات عالقة".
يقرّ المسؤول الصدري بتأثير الملفات العالقة بين الصدر وجمهور المتحجين خاصة قضية مهند القيسي في تعثر مشروع التيار
وسبق أن طالب متظاهرون ونشطاء وقانونيون، زعيم التيار، برفع الحماية عن عناصره المُتهمين بمهاجمة المتظاهرين ما بعد شباط 2020 -أو تفجير المنازل أو تعذيب شبان يظهرون في مشاهد موثقة- وإخضاعهم إلى محاكمات علنية، لكن أوساط التيار دأبت على الاكتفاء بنفي تورطها.
ويبدو أنّ التيار قد دفع ثمن تراكم سلسلة ملفات عالقة تركها الصدر بنهايات سائبة، وتسببت في النهاية بتعثر مشروعه.