في ظهيرة يوم شتوي مزدحم، لاحظ السائقون والمارة، عمّالًا وجنودًا قرب سيطرة جسر الأمانة، أو ما يُسميه أهالي المناطق المجاورة "جسر الغدير". لم يُعرف إن كانت هناك عمليات صيانة للسقيفة (الجينكو) الخاص بالسيطرة، أو أن خطبًا سيئًا ينتظرهم، لتكشف صبيحة اليوم التالي، عن الخبر اليقين.
بغداديون يتحدثون بسخرية عن معاناتهم مع السيطرات في شوارع العاصمة حيث تم إعادة نصب بعضها بعد ساعات فقط من رفعها على الرغم من الوعود بإزالتها
يقول المواطن حسام ستار لـ "ألترا عراق" ساخرًا، عن ذلك اليوم "لقد خرجت من بيتي في حوالي الساعة السابعة صباحًا، آملًا أن أصل إلى مكان عملي الذي يبعد 10 كيلومترات عن بيتي قبل الساعة الثامنة لأغراض (البصمة)، وما إن اقتربت من بداية الجسر حتى صُعقت من المنظر: جسر الغدير فارغٌ من السيارات.. وحين نزلت الجسر تأكد لي ما كنت أخشاه: لقد رفعوا سيطرة جسر الغدير". قالها بصوت حزين.
كان قائد عمليات بغداد الفريق الركن جليل الربيعي أعلن خلال مؤتمر صحافي، في 15 كانون الأول/يناير، رفع 35 سيطرة في جانبي الكرخ والرصافة، بواقع 22 سيطرة في الرصافة، و13 في الكرخ، مع رفع 36 مرابطة من الرصافة و34 من الكرخ.
المواطن (أ. ح) من سكنة منطقة البلديات، قال تعليقًا على ذلك: "كنت أخرج من منزلي في الساعة الثامنة والربع يوميًا، أصعد جسر الأمن العامة وأمر بسيطرة عمارات زيونة، وبعد أن أقضي وطرًا هناك أتجاوز ساحة ميسلون لأدخل في إزدحام شارع الغدير الذي يمتد على طول الشارع مرورًا بجسر الغدير حتى السيطرة"، مبينًا أن "ذلك يكلفه عادةً نصف ساعة على الأقل، سرعان ما تنتهي بالصراع مع السيارات الأخرى التي تُحاول استغلال الفراغات بين السيارات حتى أصل إلى السيطرة وأسلم على الجندي الذي يقف فارهًا فمه مؤشرًا بيديه: توكل".
يضيف متهكمًا: "لقد كانت لحظات سعيدة وقد حرمنا منها السيد رئيس الوزراء.. ها أنا أعبر الجسر بنصف دقيقة ولم يعد الازدحام يُصادفني إلا عند دائرة حكومية قبل الفلكة الأولى بعد الجسر، حيث يقف السائقون (متفضلين) في صف ثانٍ ويؤخرون مرورنا يوميًا، لكن ليس بالوقت الكافي الذي كانت تستهلكه السيطرة".
بشرى سارة
أقدمت أمانة بغداد وقيادة عمليات بغداد على رفع العديد من السيطرات في جانبي الكرخ والرصافة، كما رفعوا العديد من الصبات الكونكريتية التي كانت "تُزين" مناطق العاصمة وتُشعر المتواجدين بالأمن، كما أنهم في "سجن محصن".
وعلى الرغم من أن السيطرات والمرابطات المؤقتة، أو ما تُدعى بـ "المشتركة"، أي التي تشترك فيها كافة الصنوف الأمنية من وزارتي الداخلية والدفاع، كانت تقوم بواجبها في خلق الإزدحامات المطلوبة، إلا أن السيطرات الثابتة لها "طعم خاص" لسكان العاصمة.
أيامٌ مضت وجسر الغدير، وجسر ملعب الشعب، وغيره من الجسور والتقاطعات، خالية من السيارات العالقة فوقها. لكن الأمور بدأت تعود إلى سابق عهدها.
يصف لنا المواطن عبد الرحمن الحدث "الأجمل"، حيث قال بسخرية: "مرت أيام صعبة دون وجود السيطرة. كنت أخرج من منزلي في وقت متأخر، أتشاجر مع زوجتي، وأستمع للأحداث المنزلية التي لم أشهدها في اليوم السابق الذي قضيته في العمل. وفي صبيحة أحد الأيام، خرجت بعد أن أمضيت نصف ساعة في إقناع أمي أن ما يلبسه إبني قبل ذهابه إلى المدرسة كافٍ ليقيه من البرد، وأن لا قصور من قبل زوجتي في ذلك".
يضيف: "خرجت ومزاجي سيء، أوصلت إبني إلى مدرسته في شارع فلسطين ثم عدت وانحرفت يمينًا بعد إكماله وإذا بالمفاجئة حاضرة: إزدحام يصل إلى مقهى (التفاحة)!. ما الذي حدث ؟ يبدو أنه حادثٌ مروري، أو مرابطة مؤقتة. وصلت بعد ربع ساعة إلى بداية الجسر ولم يُصادفني حادث. وبعد عشرة دقائق وصلت إلى نهاية الجسر من الناحية الأخرى وقد حلت الصدمة: لقد عادت سيطرة جسر الغدير.. يا لها من سعادة أنستني المشاكل المنزلية، بكيتُ فرحًا. لقد عدنا لتلك الحميمية بين السائقين الواقفين، نتبادل النظرات، ونبصبص بإتجاه الطالبات الذاهبات إلى كلياتهن. أشعر بامتنانٍ كبير لقرار القيادات الأمنية إعادة هذه السيطرة التي أصبحت جزءًا من حياتنا".
سيطرات الكاظمية
لسيطرات الكاظمية قصة قديمة مع أبناء المدينة، بدأت عام 2013 مع بداية التشدد في التفتيش، حيث بدأت جميع السيطرات بطلب الأوراق الأصولية لكل سيارة وتفتيش ركابها، على أن تكون باسم سائقها وإلا لن يسمح لها بالدخول، أما الزائرين من غير سكان المدينة فعليهم أن يترجلوا من سيارات الأجرة خارج المدينة ويدخلوا سيرًا على الأقدام، ثم يتنافسوا مع بقية الزائرين على حجز مقعد في العربات الصغيرة (التك تك أو الستوتة)، ليصلوا بها إلى أقرب نقطة من ضريح الإمام موسى بن جعفر الكاظم.
تفجيرات أكثر .. تشديد أكبر.. اقتصادٌ يتردى
تحدث الصحفي أحمد السهيل، وهو من سكنة الكاظمية، لـ "ألترا عراق" عن تلك الحقبة، مشيرًا إلى أن "ذات العام (2013) ومع تنامي الحراك العسكري لتنظيم داعش، استغل التنظيم هذه الازدحامات لينفذ أكثر من 10 تفجيرات انتحارية على السيارات المكتظة في السيطرات، وتحديدًا في سيطرتي (عبد المحسن الكاظمي) و(ساحة عدن). وكان من الواضح حينها أن التنظيم يستغل الازدحام، لكن السيطرات كانت تزيد من التشديد بعد كل تفجير، والذريعة هي: حماية داخل المدينة!".
شهد عام 2013 أكثر من 10 تفجيرات انتحارية استهدفت مناطق مكتظة بسبب السيطرات منها تفجيران في الكاظمية
يبين السهيل، أن "الوضع الاقتصادي للمدينة كان مزدهرًا قبل عام 2011، فالكاظمية عبارة عن سوق في غالبها، إلا أن التشدد الكبير أدى إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية لأصحاب الأعمال وتوجه أغلب رواد المدينة إلى أسواق بديلة، مع تدهور سوق العقارات إلى نحو 40% من قيمته الحقيقية في بعض مناطق المدينة، مع الإشارة إلى ما يُشاع عن كون أغلب العقارات التي بيعت في الفترات الماضية انتهت لصالح مسؤولين في الدولة".
من جانبه كشف مصدر من داخل المدينة رفض الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، لـ "الترا عراق" عن "فوائد" اقتصادية لجهات معينة من إغلاق المدينة. وقال إن "إغلاق السيطرات في المناسبات أو حالات الطوارئ ترفع قيمة التخويل الخاص بالدخول، أو ما يُدعى بـ (النداء) إلى مئات الدولارات".
يشير المصدر أيضًا، إلى "استحصال أموال مقابل دخول الشاحنات المحملة بالمواد الغذائية للسوق، والمواد الاستهلاكية التي تدخل ضمن تسعيرة محددة، كما أن كراجات التكسي تعطي حصصًا من الأموال لعناصر السيطرات"، لافتا إلى "التأثير الكبير" الذي خلفه السور الداخلي القريب من العتبة الكاظمية، على السوق، والذي أوقف العديد من المصالح الاقتصادية.
خبر مفاجئ .. وساعات عصيبة
في مساء السبت، التاسع من شباط/فبراير، تداول ناشطون في مواقع التواصل الاجتماعي صورًا تُظهر عمليات رفعٍ لسيطرة في مدينة الكاظمية، الأمر الذي أكدته مديرية المرور العامة ببيان. إذ أعلن مدير السيطرة والمخابرة العميد حيدر رشيد القصاب "المباشرة برفع الكتل الكونكريتية الموجودة في مدخل مدينة الكاظمية من جهة ساحة عبد المحسن الكاظمي للسير القادم من منطقة الاعظمية نزولًا إلى تقاطع أسفل الجسر وانعطافًا على اليمين باتجاه ساحة عبد المحسن الكاظمي".
القصاب أشار إلى أن "الكتل الكونكريتية سترفع بالتدريج في بقية السيطرات وهي ساحة عدن، ساحة جدة، شارع الوزراء شاطئ التاجي، النهرين".
وما أن تأكد الحقيقة سادت "حالةٌ من الحزن" مدينة الكاظمية، إذ أن السيطرات التي تأقلم المواطنون معها باتت مهددة بالزوال، وستعود الحياة إلى هذه المدينة. قال المواطن (م.ف من أبناء الكاظمية)، بسخرية لـ "الترا عراق" عن هذا القرار: "لقد مرت ساعات عصيبة على أهالي الكاظمية. لم نعرف ما هو السبب الذي دعا القيادات لمعاقبة أهالي الكاظمية ورفع السيطرات وإزالة الإزدحامات من مداخلها".
عودة سريعة
لكن الأنباء "المفرحة" لم تتأخر كثيرًا وبدأت ترد عن طريق سكان الكاظمية، لتصدر التوضيحات تباعًا من المسؤولين. مسؤولٌ في اللواء الثامن من الشرطة الاتحادية المسؤولة عن هذا القاطع قال في تصريح صحفي يوم 10 شباط/فبراير،: "ليس هناك إيقاف لرفع السيطرات، لكن لدينا خطة لعمليات بغداد وهي تحويل السيطرات إلى مرابطات"، مضيفًا "لقد أكملنا الإجراءات وسنباشر ليل اليوم برفع السيطرات".
يوضح الصحافي السهيل، لـ "الترا عراق" ما جرى. يقول إن "السيطرة رفعت في الساعة الثامنة مساء وأعيد إنشائها بعد أربع ساعات من نفس اليوم، وتضاربت الأحاديث حولها. التبرير الأول الذي تم إطلاقه هو أن التصرف كان فرديًا من آمر اللواء الثامن، وهو تبريرٌ مثير للضحك، إذ أن الجميع يعلم أن تحركات كهذه لا تتم إلا من خلال سلسلة أوامر عُليا".
ولا يستبعد السهيل، أن يكون إعادة نصب السيطرة قد جرى حقًا بعد اتصال من مسؤول كبير، وفق ما تنقله بعض المصادر الإعلامية، خاصة وأن عددًا كبيرًا من المسؤولين يسكنون المدينة.
مزاجيات القادة
من جانبه علق وزير التربية السابق وعضو مجلس النواب، محمد الصيدلي، عبر صفحته في فيسبوك، قائلًا إن "كثرة الأجهزة الأمنية وتعدد مرجعيتها وتقاطعها يُمثل سببًا في التغير السريع الذي يحدث لخططها، والتخبط في رفع السيطرات من بعض مناطق بغداد وإعادتها بشكل أشد بعد مرور أيام أو ساعات في بعض الأحيان من اتخاذ القرار الأول".
مواطن ساخر: نحن نستمتع بازدحامات السيطرات، وعلاقتنا حميمة معها، نكون الصداقات مع السائقين و"نبصبص" لطالبات الجامعات!
وأضاف، "يبدو أن رفع السيطرات من الطرق وإعادتها مرتبط بمزاج القادة الأمنيين، وتعدد القرار الأمني لا ينتج إلا الفوضى".
هناك (إنّ).. ومناشدة
افتراضات عدة تدور حول قصة الإصرار على إغلاق مدينة الكاظمية، منها ما يشير إليه السهيل، حيث يقول إن "واحدة منها هي وجود أملاك عديدة في الكاظمية لم يتم شراؤها، والتخوف القائم هو أن إعادة فتح مدينة الكاظمية سيتسبب بعودة أسعار العقارات إلى وضعها الطبيعي قبل الإغلاق". فيما تحدث آخرون عن إشاعة يتم تداولها مفادها أن فتح المدينة سيحدث بعد زيارة الإمام الكاظم، وهو ما "يستنكره" مواطنون.
يقول المواطن (م.ف) بتهكم في حديثه لنا: "لم نصدق أن السيطرة عادت بشكل سريع. أرفض إزالة السيطرات التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية. هناك علاقة حميمية بيننا. نحن مستمتعون بالازدحامات التي تُجبرنا على الانتظار أوقاتًا طويلة في مداخل مدينة الكاظمية. لقد تعودت أن أقرأ كتبي المفضلة وأنا أنتظر دوري في الخضوع لعملية التفتيش، وأناشد رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بالتدخل السريع لمنع أي احتمالية لفتح مداخل الكاظمية أمام المواطنين".