في الرابع من كانون الثاني/يناير الجاري، طلعت الشمس على عمود دخان متصاعد من دار المشردات في منطقة الأعظمية شمالي بغداد، الدار التي تضم بين نزيلاتها سجينات سابقات انتهت مدة محكوميتهن، وليست لهن عوائل يعدن إليها.
قبل أيام، أقدمت نزيلات دار مشردات في العاصمة العراقية بغداد، على الانتحار بإشعال النيران في الدار كلها
ولم يكن مصدر عمود الدخان إلا "انتحارًا جماعيًا" أقدمت عليه النزيلات بعد تدهور حالتهن النفسية، بحسب ما نقله الضابط في شرطة العاصمة المقدم محمد جهاد عن إحدى النزيلات في حديث تلفزيوني، فهل هو كذلك بالفعل؟
اقرأ/ي أيضًا: فتيات العراق بين أحلامهن وواقعهن المؤلم
الرواية الرسمية
رواية وزارة العمل والشؤون الاجتماعية التي تشترك مع وزارة الداخلية في تحمل مسؤولية الدار، قالت إن الحريق ناتج عن "خطة مبيتة سبقها أعمال شغب قمات بها النزيلات، وذلك بعد رفض السماح لهن بالخروج قبل إعادة تأهيلهن واستحصال موافقة الخروج من قاضي".
وأضاف وكيل وزير العمل فالح العامري، في تعليقه على الحادثة، قائلًا إن "هؤلاء الستة اللواتي لقين مصرعهن معروفات بتمردهن، وقبل يوم من الحادث أحدثوا أعمال شغب بالدار".
غير أن الرواية الرسمية تجاهلت الأسباب ولم تر في الحادثة أي ملامة تقع على عاتق المؤسسات التي تتبعها الدار، أو تقصير منها، بل تجاوزت كل ذلك لتتهم الراحلات بإثارة الشغب، كما يرى نشطاء علقوا على التصريحات الرسمية حول الحادث.
وتساءل الناشط والمدون تمام عدنان في منشور له على فيسبوك، عن "الذي ذاقته تلك الأنفس لكي تقرر الانتحار حرقًا يا سيادة المسؤول؟ هل هي ضوجة أم مرض نفسي انتشر بينهن؟ أم أنها حمى الانتحار الناتجة عن الدلال الزائد في مؤسساتنا التي لا تمسها أفظع الانتهاكات لحقوق الإنسان، سيما الضعيف؟!".
وأضاف: "تُرى، أية بشاعة تم ارتكابها بحق هؤلاء النساء؟ وما هي نسبة ارتكاب مثل هذه البشاعات في مؤسسات مشابهة في دولة، ومجتمع الشهامة والأخلاق والدين والضمير والغيرة؟".
رواية ناجية
أظهرت مقابلة مصورة لإحدى النزيلات الناجيات من الحادثة، وهي تروي التفاصيل لأحد المسؤولين، يرافقه المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء سعد معن.
ومما جاء في حديث الناجية، أن الحادثة لم يكن المراد منها الانتحار بل التخويف والضغط من أجل تحقيق مطالب النزيلات، ورافق تطور الأحداث التي بدأت باحتجاج وغلق مدخل غرفة المبيت بالأَسرّة، تهديدات من قبل حراس الدار بالضرب والقتل، بحسب حديث الناجية.
الناجية التي ظهرت في المقابلة، بدا أنها في حالة خوف شديد، أظهرتها حركة يديها وتعبيراتها. وكان واضحًا محاولاتها ملامة زميلاتها المتوفيات وتبرئة نفسها.
وعلّقت الصحفية حنين خليل، في حديث لـ"ألترا صوت"، على حادثة الدار قائلةً إن "جريمة مثل حريق دار المشردات، من المفترض أن يسلط الضوء عليها وعلى أسبابها، وألا تمر مرور الكرام وتُنسى وكأن شيئُا لم يكن".
وتصر خليل على وصف الحادثة بـ"الجريمة"، موضحةً: "هي جريمة، وليست حادثة، سواءً كانت انتحارًا أو قتل أو حادث بالخطأ، فهي جريكة، والمسؤولين عن وقوعها في كل أحوالها هم الأشخاص ذو المساس المباشر بالقضية من مسؤولين في الوزارات المعنية، ومن ضباط، ومن إدارة الدار".
وأشارت خليل إلى أنه في حين أخلت وزارة العمل مسؤوليتها عن القضية تحت ادعاء أنها كانت تعاملهم بشكل جيد، لم توضح ما المقصود بكلمة "جيد".
وتساءلت: "هل حبس مجموعة نساء في دار واحدة، بعد إكمالهن فترة محكوميتهن، هي معاملة جيدة؟ هل الخوف من الشارع، مبرر كافٍ لسجن إنسان حر؟ وإذا كانت الوزارة رقيقة التعامل، لماذا فضلن العودة إلى السجن بدل البقاء بالدار؟ ما الذي كن يعانين منه حتى أصبح السجن مكانًا رحيمًا؟".
الصمت عن الحادثة
وختمت حنين خليل حديثها بالقول: "أشعر أن دماء البنات معلقة برقبتي إن بقيت القضية مستورة، دون توجيه أصابع الاتهام لأحد"، مضيفةً: "إنها جريمة، ويجب محاسبة متسببيها، وفي كل الأحوال والظروف، لا يمكن أن يتم التستر عليها، وتغطيتها وتبريرها. يجب على هذا البلد أن يهتز قليلًا، أو أن تهتز المدينة، أو على الأقل فيسبوك!"، في إدانة غير مباشرة لعدم اهتمام المدونين على مواقع التواصل الاجتماعي بهذه القضية.
وانتقد الصحفي العراقي رضا الشمري في منشور له على فيسبوك، بشكل لاذع، صمت الصفحات النسوية في السوشيال ميديا عن القضية، "مع ادعائها الدفاع عن المرأة وحقوقها، ورغم تلقيها دعمًا من منظمات عالمية".
ويشير الشمري، إلى وجود احتمالية أن الحادثة ربما تكون حادثة قتل وليس انتحار، ملمحًا في منشور آخر إلى أنهن "ربما رفضن فعل شيء طُلب منهن"، لكن لم يوضح ماهية ذلك.
بعض المتابعين عقّب على الحادث بالإشارة إلى أنه في البلاد أهوالًا أكبر تستحق العناية أكثر، وهو ما علقت عليه آلاء عبدالأمير، الناشطة في حقوق المرأة، في حديث لـ"ألترا صوت"، وصفت فيه هذه التعقيبات بـ"السخيفة"، قائلةً: "متى أصبحت حياة الإنسان قابلة للاستهانة؟!".
وأضافت عبدالأمير: "أتفهم منطق الأولويات، لكننا هنا نتحدث عن مواطنات عراقيات تعرضن لإساءة كبيرة لدرجة أنهن اخترن (كما قيل) أن يلجأن لهكذا حل متطرف، وليس من الصعب تخيل رداءة الوضع الذي اضطرهن للتعامل معه بهذا الشكل"، مؤكدةً: "هذه المقارنات غير منصفة أبدًا وغير صحيحة، وإذا أراد المجتمع أن يتعامل مع الأزمات بهذا المنطق فيجب عليه مراجعة ضميره وأخلاقياته".
شدد عدد من الصحفيين والحقوقيين على أن المسؤولية الأولى في حادثة دار المشردات تقع على عاتق السلطات المعنية بالدار
وشددت الناشطة الحقوقية على أن مسؤولية الحادث تقع بالدرجة الأولى على الجهات الحكومية المعنية بالدار ونزيلاتها، مستدركة: "هذا لا يبرئ تقصير العائلات طبعًا، لكن في النهاية هناك مدخلات تفترض أن الجهل وقلة الدراية تتحكم بظروف العائلة التي تخلت عن ابنتها في هكذا وضع صعب، أما الجهات الحكومية فالمتوقع منها أن تكون أكثر حكمة ومعرفة بإدارة هكذا حالات، ورغم ذلك لم نر شيئًا".
اقرأ/ي أيضًا:
المغرب يشهد تزايدًا مقلقًا في حالات الانتحار.. فما السبب؟
الانتحار في لبنان.. "رغبة" التوقف عن العيش تنافس المعدلات العالمية