21-يونيو-2021

السلطة لا يمكن أن تدين نفسها (فيسبوك)

قد لا نبالغ في هذا الادّعاء لو قلنا إن المقدّس الاجتماعي لا يختلف من حيث القوة والتأثير عن المقدس الديني. ولعلنا سنعثر على شرائع وليست شريعة واحدة. ولا نجانب الصواب في هذه الحقيقة الماثلة للعيان: إن شريعة العشيرة في أحد أشكالها الأكثر عنفًا تمثل قداسة شديدة الرسوخ لدرجة أنه لا يمكن أن يطالها التدنيس، أي لا يمكن التشكيك في قيمها. ومصير المتمردين على هذه الشريعة هو النبذ والإقصاء كما بينّاه في عدة مقالات. ومن أشكالها العنيفة، على سبيل المثال وليس الحصر، هو النزاعات العشائرية التي تتخذ بعدًا عسكريًا، وتمثل تهديديًا حقيقًا للدولة. بل حتى هذه الأخيرة تميل إلى التصالح وغض النظر في مثل هذه النزاعات خوفًا من تهييج الرأي العام ضدها. ذلك أن الأعراف العشائرية في بلد مثل العراق تشكل منافسًا وغريمًا صلبًا تجاه القوانين المدنية. إنها حرب غير معلنة على المواطنة والحرية.

لا يمكن لرجل العشيرة مهما كان نمط تدينه أن يركن لشريعة الدين في القضايا الجنائية، ولا يمكن للدولة أن تعزز نفوذها وسط الهيجان العشائري

تتنازع الفرد العراقي ثلاث شخصيات: شخصية الفرد المنتمي إلى العشيرة، وشخصية المتدين، وشخصية المواطن. في الطقوس الدينية يظهر الشخص المتدين بجلاء، وفي القضايا القانونية العامة يظهر الشخص المواطن، لكنه في النزاعات الشخصية ستبرز شخصية الرجل العشائري بامتياز لتغطي وتصهر الأجزاء المتبقية. لا يمكن لرجل العشيرة مهما كان نمط تدينه أن يركن لشريعة الدين في القضايا الجنائية، ولا يمكن للدولة أن تعزز نفوذها وسط الهيجان العشائري. حتى لو تم محاكمة الجاني قانونيًا، فحق الدم لا تسقطه المحاكمات القانونية، سيظل ساري المفعول إلى أن تنفرج عقدة الثأر بقتل الجاني. ليس هذا فحسب، بل معظم أفراد العشيرة سيطالهم الدمار عن طريق ما يسمّى "الدكَّة العشائرية". أكثر من ذلك، في كثير من الأحيان، يهرب المطلوبون "للعدالة" العشائرية ويتركون بيتوهم، ومن ثمّ يكُتب على واجهاتها "مطلوب عشائريًا". وهذه العبارة تعني أن البيت مرهون لذوي المجني عليه حتى إشعار آخر.

اقرأ/ي أيضًا: الخوف من الحاضر

الدولة في أحد تعاريفها هي "كيان لاهوتي مُعَلمَن"، بمعنى أنها لا تقل قداسة عن باقي المقدسات؛ فالدولة  تحتاج إلى شهداء في سبيلها، وتقسم المواطنين إلى أخيار وأشرار، وتعاقب وتثيب على هذا الأساس، ومن يخرج عن شريعتها القانونية فهي فرد ضال ويقام عليه الحد الشرعي المتمثل بالعقوبة القانونية. لكن الدولة تضع مواطنيها وتصهرهم في قيمة واحدة: المواطنة. وعلى هذا الأساس تتقسم الحقوق والواجبات. إنه عقد اجتماعي متفق عليه من قبل المواطنين. ومتى ما تم هذا العقد المبرم، فلا يحق لأي هوية فرعية، مهما كانت جذورها التاريخية، أن تفرض سلطته الأخلاقية، ذلك أن قوام الأخلاق هي الحرية، وما عداها نغدو رعايا وعبيد. وجوهر الدولة هو الحرية، ومن ضمن وظائفها الأساسية هي الكف سياسات الاستعباد. الدولة هي دولة المواطنين الأحرار لا دولة الرعايا العبيد.

إن "قداسة" الدولة هنا، لا تكتسي دلالة المقدس الديني أو العشائري بالطبع؛ فالدفاع عن حدودها، والحفاظ على شريعتها، يجري ضمن هذا العقد الاجتماعي، والذي، من المفترض، تم الاتفاق عليه باختيار غالبية المواطنين. ثمّة سلطات ثلاث، وفضاء عام، تتشكل من خلالهما بنية الدولة، وهذه البنية سيكون أحد عناصرها المواطن بدون شك، وليس شيخ العشيرة! مؤسسات فاعلة، ومواطنون يتحركون ضمن هذا الفضاء بمقتضى الحقوق والواجبات. وإذا انفرط هذا العقد فلن يكون حال المجتمع بأفضل من حال العشيرة؛ إنها "حرب الكل ضد الكل". وستكون العشيرة، كهوية فرعية لها جذروها التاريخية في العراق، لتسد هذا الفراغ، وهذا ما يحصل في العراق على وجه الإجمال. هويات فرعية: مذهبية وعشائرية تكتسب شرعيتها خارج أفق دولة الحرية.

 وللأسف الشديد لم يشهد العراق مثل هذا العقد الاجتماعي المبرم بين طرفين؛ دائمًا ما يكون طرفًا واحدًا هو من يحدد نوعية النظام المُفترض. إنه "الأخ الأكبر"، و "الأب الحنون"، و"حامي الأمة". ويغدو تاريخنا السياسي هو تاريخ السيد الرئيس لا غير. وتغدو السلطة الاجتماعية هي النسخة المطابقة للأصل للسلطة السياسية. لماذا لا تتخذ الدولة موقفًا حازمًا ضد الاختراقات القانونية الفظيعة التي تحصل عادةً بين العشائر المتنازعة؟ لماذا تكون بدايات المعارك العشائرية ونهاياتها بيد العشائر حصرًا، حيث تقف القوات العسكرية والأمنية موقف المتفرج بشكل عام؟ لأن السلطة لا يمكن أن تدين نفسها! بمعنى أن السلطة السياسية هي الوجه الآخر للسلطة العشائرية لكن بإطار مختلف. غير أن هذا الاختلاف هو اختلاف صوري لا غير، فالواقع الاجتماعي يخبرنا أن شيخ العشيرة متغلغل في كل مكان؛ مرّة بعقال وكوفية، وأخرى ببدلة أنيقة، وربطة عنق، وحذاء لمّاع.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فرسان التغيير: الإمكانات والشروط

الحرية بين الحقيقة والادّعاء