هي فكرة مزعجة لكن لا مهرب منها؛ نحن نتاج ثقافة صنعها شعراء العنف. استعدت الفكرة وأنا أقرأ حوارًا مطوّلًا أجراه الدكتور علي جواد الطاهر مع محمد مهدي الجواهري بمجلة (الكلمة) عام ١٩٧٣؛ إننا نتاج ثقافة صنعها أولئك المثقفون من أصحاب المزاج الحاد، أولئك الذين صنعوا قيمنا وقيدونا بها بحبال من حرير، ثم أذهلونا بجماليات لغتهم ودقّة استعاراتهم وكناياتهم عن سوء أنساقهم و"قبح" القيم التي يدورون حولها. الأمر ثقافي وليس إبداعيًا. أي أن ما يبدو لأنظارنا جميلًا ليس بالضرورة أن يكون أخلاقيًا، والعكس صحيح.
المهم، يسأل علي جواد الطاهر شاعرنا الأكبر عن علّة تأرجحه بين البساطة والتعقيد، فهو يبدو مرة بسيطًا، لكنه قد يظهر في طور آخر بالغ التعقيد، "فكيف كان ذلك؟". يجيب الجواهري أنّه "لو لم يكن كذلك لما كان الجواهري". ثم يستدرك وكأنه محلل نفسي أنّ "التناقضات يؤديها كاملة ـ يقصد نفسه ـ عند البساطة وعند التعقيد. وهنا يأتي المزاج العنيف أن لا يعرف الوسط". انتبهوا لعبارتي "المزاج العنيف" و"لا يعرف الوسط". هو يعني التطرّف في المزاج مع غلبة للعنف، وهذه معادلة يعيها الجواهري جيدًا بقرينة أنه اختصرها في بيت ذائع له: تريك العراقي في الحالتين.. يسرف في شحّه والغنى. نعم، إنه يعي نوازعه جيدًا حتى ليبدو قريبًا من سلفادور دالي الذي كتب مذكراته وكأنه يضع تحليلًا سيكولوجيا لنفسه. الجواهري كذلك، يعرف مزاجه كما يعرف موهبته، يتفهم أنساقه الثقافية كما يتفهم ما يؤثر في متلقيه، وأهم تلك الأنساق العنف. لهذا يقول: "العنف عنصر في المزاج الشعري، هو علامة من خبال الشاعر"، انتبهوا لمفردة "خبال" التي يوردها بوصفها عنصرًا أساسيًا من عناصر شخصيته الشعرية.
الحال أن من قرائن وعي صاحبنا بمزاجه العنفي تكراره الفكرة في حوار آخر فهو يقول إنّ "العنف أساس كلّ مزاجه"، والعنف عنده ذو درجات "حيث المغامرة بلا نهاية". بل الطريف أنّ علي جواد الطاهر يسأله إن كاد سيجد العنف عنده مجالًا فيما لو كان قد نشأ في باريس مثلًا، فيجيب أنّه، لو وجد نفسه بباريس، لكان أصبح واحدًا من أشهر البوهيميين ـ تذكروا سلفادور دالي ـ ذلك أنّ العنف برأيه لا يتجزأ وهو يتحوّل إلى مجار أخرى. ثم يؤكّد: "العنف جرّني إلى الصحافة". هذه ملاحظة جوهرية تؤكد فكرة عدم تجزؤ الجواهري، فأبو فرات المقاليّ عنيف كما هو الشاعر، ولربما توحّد "العنفان" في بعض اللحظات كما جرى مثلًا بعد انقلاب بكر صدقي عام 1936. في خضم الصراع السياسي بين الإقليميين والقوميين، وتصاعد نبرة التهديد والوعيد، نشر الجواهري في صحيفته (الانقلاب) رائيته الشهيرة التي حرّض بها حكمت سليمان على الإطاحة بخصومه قبل أن يطيحوا به. كانت "تحفة" مرعبة، مليئة بالتهديد والوعيد والتحذير. يقول في بعض أبياتها: لا تبق دابر أقوام وترتهم.. فهم إذا وجدوها فرصة ثأروا.. فحاسب القوم عن كل الذي اجترحوا.. عما أراقوا وما اغتالوا و ما احتكروا. لكنّ الأشهر من هذين البيتين بيتان سارا مسار الأمثال هما قوله: فضيّق الحبل واشدد من خناقهم.. فربما كان في إرخائه ضرر.. ولا تقل ترة تبقي حزازتها.. فهم على كلّ حال كنت قد وتروا. مع هذا، ثمّة ما يقال أيضًا وأيضًا، لا حول لغة العنف التي ارتبطت بهذا النموذج من الشعر إنما حول استعادته بحذافيره وإعادة إنتاجه من مرحلة إلى أخرى. فالجواهري الذي حرّض حكمت سليمان عام 1937 عاد ليحرّض عبد الكرم قاسم بالقصيدة نفسها عام 1958، فكان أن ألقاها في ساحة الكشافة، وأعادت جريدة (الحرية) نشرها وكان ثمة تغيير طريف؛ بدل (بن سليمان)، وضع الجواهري (وأنت عبد الكريم)، في أحد الأبيات: وأنت يا بن سليمان الذي لهجت.. بما جرت عليه البدو والحضر/ وأنت عبد الكريم الشهم من لهجت .. بحسن ما قد أتاه البدو والحضر!
أعرف أنني قد أكون "سبيت" العنب الأسود، لكن ما الحلّ ونحن نتلمّس أثر الحبال الحريرية في عقولنا إعجابنا بها. المقصود حبال الجواهري "الجميلة" المفتولة من حبال المتنبي وأبي تمام وصولًا لطرفة وأمرئ القيس ويا عجبي!
اقرأ/ي أيضًا:
رمي الأعراض وشتم الأمهات بسبب الجواهري.. "خطوط حمراء" وأصنام ثقافية!