إن نقل أفكار القرن الذي نعيش فيه إلى القرون السالفة هو المصدر الأكثر خصبًا من مصادر الخطأ. إنني أقول لهؤلاء الناس الذين يرغبون في تحديث كل القرون الماضية ما قاله كهنة مصر لصولون: "أيها الاثينيون لستم سوى أطفال" مونتسيكيو.
لم يشتبك المتن التحديثي في الفكر العربي عمومًا بأي إشكالية أخرى مثلما اشتبك مع التراث، وأننا نتحدث كثيرًا عن مشكلات التحديث، لكننا في الآن ذاته، لا نعيد صياغة ومراجعة، بل وحتى مساءلة أدواتنا في التحديث في مقولاته وأهدافه، لأننا لم نعتد أن نراجع مسلماتنا عمومًا، وبالتالي نتمسك بالأدوات الأولى بما تحتويه من مقولات، بل وحتى بما تحتويه من إشكالات ترغب في معالجتها بثبات حتمي، بحيث لا نتصور صيغة أخرى للجدل، فهنالك علمانية تقابلها بالضرورة وبشكل حتمي وثابت اشتباك مع التراث! وهذه كتلة مسلمات وإشكالات نجترها بمقولاتها كتعويذات. ندخل منذ قرن من الزمان نحن الجمهور العربي بإشكالية الدين والعلمانية، أو ليست هذه الصيغة المركزية في إشكاليتنا؟ أليس لدينا غير الاشتباك مع التراث الديني سواء كنّا مؤولين أم ناقدين؟
ما زلنا نتعامل مع التراث كمتن ثابت ووحيد ضمن إشكاليتنا للتحديث
لاتوجد لديّ مشكلة في الاشتباك النقدي أو التأويلي مع "التراث"، كون أن الإنسان بالنهاية هو كائن تاريخي والدين فاعلٌ مهم في سلوكه الفردي والجماعي إلى حدّ ما، لكن هنالك اختزال اعتقده لإشكالياتنا بوضع التراث الديني كمسلّمة ورهان وحيدين لأي عملية تحديث، مثلًا نحن نقول في هذا الصدد إن العلمانية هي فصل الدين عن الدولة، الدولة الحديثة هنا كمعيار تحديثي، والدين هو إشكالية التراث على اعتبار أن التراث هو ديني بالنتيجة، أو نعرّف العلمانية مثلًا بفصل الدين عن المجال العام. إذن نحن ما زلنا نتعامل مع التراث كمتن ثابت ووحيد ضمن إشكاليتنا للتحديث، التراث هنا هو مسلمة في إشكاليتنا، ومن خلال هذه الثنائية نصوغ تعريفاتنا عن الدولة والمجتمع والعلمانية، وبما أن الدين الذي يشكّل تراثنا هو ثورة ثقافية ـ بالمعنى الانثروبولوجي ـ لا يختلف في تمظهراته الواقعية عن الثورة الزراعية أو تقسيم العمل على سبيل المثال، إلا أن الملازمة عندنا قائمة وثابتة بين التحديث والتراث أو الدين والعلمانية. ومن خلالها نعيد إنتاج وتعريف الخطابات كافة وفقًا لضروب أساليب التحديث.
اقرأ/ي أيضًا: سنوات المخاض
هذه الملازمة الإحادية حوّلت الإشكالية عندنا إلى تعويذه نطرقها بأي مناسبة، جعلتنا مهووسين بشيء واحد، وتناسينا أننا أحيانًا نحتاج أن ننطلق من المتغيرات الثقافية عمومًا، والتي يكون الدين ضمنها وليس حالة خاصة مثلما يعبّر المتن التحديثي عندنا. ما اعتقده أن علينا أن نحتوي كل المتغيرات الثقافية ونجربها لا أن نمسك بمتغير واحد ونجعله ثابتنا الوحيد ونصوغ إشكاليتنا من خلاله، بدلًا أن يتحول الاشتباك إلى عملية أيديولوجية أحادية تهدف إلى إفناء الآخر بالحجج والحجج المضادة، والتي أصبحت تعويذات مضادة عند الطرفين. يدخل الدينيون المجال السياسي ابتداءً من مقولات الخصوصية الثقافية المحافظة والتي تشكّل مشروعية مسبقة لفعلهم السياسي، حيث أن وجهة نظرهم عن المجتمع والثقافة تنطلق من الثقافة كثابت حتمي ديني، كون المجتمع متدين وله خصوصيته الثقافية، وهذا حكم مسبق جدير بالمناقشة بدل التسليم به، يجعل من الثقافة كحتمية وهذا ما يناقض الواقع.
يُفهم عالم الاجتماع والسياسة تشارلز تيلر أن الدين يجب أن لا يُعامل كحالة خاصة سواء أكان ذلك بالنسبة للخطاب السياسي أم بالنسبة للعقل والجدل بشكل عام، فالدين ببساطة لحظة واحدة من تحدّ أعمّ هو التنوع، أي أن هنالك لحظات من التنوع والدين من ضمنها، ومن ضمنها أيضًا على سبيل المثال، الوعي الطبقي أو الجندري والحركات أو "الفئات الاجتماعية" وغيرها من العناصر التي تتداخل فيما بينها لتنتج خطاطات توجيه تحرك الإنسان داخل مجاله الفردي والجماعي، هذا الكائن الذي يُنتِج سلوكه من هذه التراكيب الثقافية كان يسميه صاحب "روح الشرائع" الكائن التائه بتاريخه، يقول مونتسكيو إنه "يخترق القوانين التي وضعها الله باستمرار ويبدل القوانين التي وضعها هو بنفسه ككائن ذكي"، كائن ذو سلوك غير خاضع دائمًا للقوانين وهو غير ثابت، هذا الكائن الثقافي نتاج الثقافة التي هي بِنية متغيرة لا تعرف الثبات ولا الحتميات.
تختزل اشكاليتنا واقع الإنسان الثقافي، مثبتةً من دون وعي خطاب "الحتمية الثقافية" الذي يتبناه الدينيون في تصوراتهم عن الفرد والمجتمع والدولة. رهانات التحديث يجب أن تنطلق من أهداف الفرد/المجموع بوصفهم كائنات ثقافية متغيرة لا بوصفهم ثابتين ثقافيًا وتاريخيًا، ومن مصلحة الخطاب الديني أن يثبت الإنسان في تصور واحد، كائن ديني تاريخي يشكل مجتمعات متدينة، لا يأخذ بعين الاعتبار أهداف الإنسان التي تنطلق من واقعه الثقافي المتغير، هذه التصورات الحتمية عن الثقافة تثبتها وتزيدها كثافة ويكرسها تصور الكثير من المثقفين والمشتغلين بالمعرفة من خلال عناصر الإشكالية الأحادية المتمثلة بجدل الدين/العلمانية مثلًا، وما يتفرع عنها من إشكاليات ثنائية تصب بنفس التثبات الأول، متغافلين بفعل هوسهم الضدي أن نشاط الأفراد والجماعات لا يمكن أن يكون ثابتًا في تصور واحد، فالإنسان كائن ثقافي متغير، تحركة فواعل عديدة من ضمنها الدين.
اقرأ/ي أيضًا: