من عام سقوط المماليك 1831 وحتى انهيار الملكية 1958 لم تكن الحكومة في بغداد تجد استنادها في القوى الاجتماعية المحلية. القرارات يضعها غير العراقيين أو خارج الحدود. حنا بطاطو.
يبدو عنوان المقالة قاسيًا ومجحفًا، وهو يشير إلى حالة التشظي التي يعاني منها العراق. لكنّ الواقع يصدّق هذه الحقيقة بنحو عام. إن العراق من حيث المصالح السياسية، لا يخضع لحكومة واحدة بل تتذبذب الإرادة السياسية بين أكثر من قرار. فالنائب البرلماني، في نهاية المطاف، لا يخضع لإرادة تنظيمه السياسي بالمعنى الشائع، وإنما لإرادة غير معلنة، وهي إرادة "أضرب وأهرب"، ذلك أن الوطن في مفهوم السياسي العراقي هو غنيمة، والشاطر من يملأ بنوك العالم بالثروة المنهوبة. لا تستغرب لو أظهر السياسي عدائية ضدك وأنت تطالبه بدولة المؤسسات العصرية، فهذا المطلب يتعدى هموم السياسي الضيّقة، ذلك أن "العيش المشترك" الذي يؤمن به عموم السياسيين هو الإجهاز على ما تبقّى من الثروة الوطنية.
لا زال ماضي العراق السياسي وحاضره يشهد عدائية شديدة تجاه أي تنظيم سياسي فضلًا عن النفور الشديد من العمل المؤسساتي
ويتساوى الأغنياء، من كل الطوائف والملل والأعراق، في هذا البلد من حيث الآلية: لا تنعكس أموالهم كقوة إنتاجية تنعكس على الوضع الاقتصادي في البلد. ويتساوى السياسيون كذلك، من كل الطوائف والملل والأعراق، من حيث قوتهم الاستلابية: نهب المال العام عبر تسويات مُعَدّة سلفًا بينهم ويحققون أقصى درجات التضامن من هذه الناحية؛ ذلك أن الدولار يوّحد العقول والنفوس ويصهر الإرادات مهما كانت شراستها والهويات التي تنطلق منها. والأمر قديم وليس بجديد، ويمشي جنبًا إلى جنب منذ تأسيس الدولة العراقية، حيث يذكر حنّا بطاطو، في كتابه الثاني، بيان الحزب السري عام 1924 يقول فيه "إننا لم نر حتى الآن أية أعمال مفيدة للبلاد قام بها الأغنياء مع أنّهم يستمتعون بهذا الوطن البائس أكثر من الآخرين".
اقرأ/ي أيضًا: النخب العراقية: كائنات ما قبل التاريخ
كانت عائلات برجوازية عراقية، والكلام لبطاطو، تساوي ثروتها مليون دينار أو أكثر عام 1958. عدد هذه العائلات 23 عائلة 8 عرب سنة و7 عرب شيعة و1 أكراد و1 يهودية و3 عرب من المسيحيين و2 أرمن من المسيحيين.. وكانت 17 عائلة بغدادية و 3 موصلية و 2 بصراوية و1 من الحلة. كان مجموع رأسمال هذه العوائل مجتمعةً هو 30 أو 35 مليون دينار عراقي وهو مبلغ يساوي تقريبا 56-65 بالمئة من مجموع رأسمال الخاص التجاري والصناعي المشترك. هذه القلة المتنفذة لم تختلف عن مثيلتها اليوم إلا من حيث قوة الأرقام! فما عدا ذلك فهم في الخراب سواء. ما يهم هو بقاء هذه القلة متحكمة لضمان مصالحها الخاصة، ولذلك كانت الاستخبارات البريطانية تعكس بوضوح، كما يكتب بطاطو، المشاعر العامة السائدة، وصفت الحكومة ذات مرة بأنها "قلّة متحكّمة (أوليغارشية) من مبتزي المال".
يبدو أن الذاكرة تفعل فعلها، ولا زال ماضي العراق السياسي وحاضره (ومستقبله القريب كما يبدو) يخضع لذات البنية: عزوف عام من قبل النخب والجماهير، وعدائية شديدة تجاه أي تنظيم سياسي، ونفور شديد من العمل المؤسساتي. "كانت هنالك في النظام ككل أهمية أقل للعامل المؤسساتي وأهمية أكبر للعامل الشخصي نظرًا للمقاومة الغريزية عند العراقيين للصيغة المؤسساتية مهما كانت" بحسب حنا بطاطو، فالعامل الشخصي يبرز بجلاء في الفعاليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهو المتحكّم والنافذ في مجمل القرارات. بل حتى تغيير الحكومة؛ فقد يأتي، عن طريق المصادفة، رئيس وزراء يتحلّى بالعزم والقوة، فلن ينجح في مسعاه وسيرتد للخلف بعد تجربة أو تجربتين، وسيصطدم بثلاثة حكومات تقاتل من أجل امتيازاتها الفئوية. وأعني بهذه الحكومات الثلاث: الكردية، والشيعية، والسنية. وتختزل هذه الثلاث تاريخ مكوناتها بأشخاص معدودين، أي "بقلّة متنفّذة أوليغارشية". فيما يستمر الناخب بالتحشيد والحماس والولاء دون أن يجني شيئًا من هذه السلّة السياسية المملوءة بما لذّ وطاب.
فلنختتم هذه المقالة القصيرة باقتباس بالغ الدلالة وهو يتكلم عن الحقبة السياسية الماضية، أعني بدايات تشكيل الدولة العراقية "ولقد [تشكلت] أكثر من تسع حكومات.. لكن تغيير الحكومات لم يكن يؤدي إلى تغيير السياسية الأساسية. وكانت الفوارق الأساسية تتركز فقط على طباع رئيس الوزراء، والوسائل التي يلجأ إليها، والقدر الذي يظهره من الكفاءة أو غير الكفاءة". والسؤال هنا: هل من جديد؟!
اقرأ/ي أيضًا: