الترا عراق – فريق التحرير
لم تسفر عمليات الضبط المستمرة لمكامن تهريب النفط في العراق، على مدى سنوات طويلة، عن آلية حقيقية لمكافحة هذا النوع من الجرائم. وباستثناء البيانات الروتينية لعمليات اعتقال سائقي الشاحنات من المتهمين، تغيب الإحصائيات الرسمية عن حجم الخسائر التي تتكبدها البلاد جراء عمليات التهريب.
انتعشت عمليات تهريب النفط بشكل واسع وشبه علني بعد العام 2003 موفرة مليارات الدولارات لأطراف السلطة
تعود عمليات التهريب لعقود خلت، حيث جرت بدعم من النظام السابق خلال تسعينيات القرن الماضي إثر الحصار الاقتصادي والتحكم بعائدات النفط العراقية، قبل أن تنتعش بشكل غير مسبوق بعد العام 2003 في ظل الانهيار الأمني واستشراء الفساد وسيطرة الفصائل المسلحة.
وعلى غرار الحكومات السابقة، أعلن رئيس مجلس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي في آيار/مايو الماضي، إطلاق حملة ضد مهربي النفط ومشتقاته، وحماية خطوط النقل، تبعتها بيانات أشارت إلى ضبط شحنات ضخمة بعضها وصل إلى مليون لتر، دون إجراءات بحق المسؤولين الحقيقيين عن تأمين طرق التهريب التي تمتد من أبعد نقطة جنوب البلاد حتى أقصى شمال كردستان، والمستفيدين من زعماء كتل وقادة ميليشيات.
ومع انتهاء مهام حكومة تصريف الأعمال اليومية بتسلم محمد شياع السوداني رئاسة الوزراء، ظهرت وثائق رسمية تتضمن أوامر اعتقالات بحق قادة أمن كبار بتهمة تنفيذ عمليات تهريب نفط.
وتأكيدًا لذلك، قال رئيس الوزراء محمد شياع السوداني في تغريدة له عبر تويتر، إنّ " مفارز جهاز الأمن الوطني، بالتعاون مع الأجهزة الأخرى، من تفكيك أكبر شبكة لتهريب النفط في البصرة".
"دعاية إطارية"!
كشف القضية بهذا الشكل بالتزامن مع إعلان الكابينة الجديدة، أثار مرة أخرى شكوكًا في مدى جدية حكومة السوداني لمعالجة هذا الملف وقضايا الفساد الأخرى، وعدم استخدامها كأوراق ضغط على الخصوم واستثمارها إعلاميًا فقط لتصدر المشهد، وتلافي الغضب الذي أثارته آلية وشكل الحكومة الجديدة.
استخدمت أطراف الإطار قضيتي التهريب والأمانات الضريبية لتسويق حكومة السوداني وامتصاص غضب الشارع
وفي دلالة على مدى فداحة مشكلة تهريب النفط في العراق، تظهر وثائق رسمية تعود إلى عام 2019، إصدار رئيس مجلس النواب أمرًا نيابيًا بتشكيل لجنة مؤقتة للتحقيق في عقود المشاريع النفطية وعقود توزيع المنتجات النفطية وعقود شركة تسويق النفط سومو من العام 2015 وحتى نهاية 2019.
ويستند الأمر إلى وثائق أخرى تتضمن اتهامات لشركة "قيوان" الكردية بتهريب النفط من محافظات العراق إلى إقليم كردستان ثم إلى إيران، وفق معلومات قدمتها قيادة جهاز مكافحة الإرهاب تفيد بأنّ هذا النشاط يجري منذ منتصف عام 2011، عبر صهاريج أهلية وتلاعب بالشحنات، أي بفارق أكثر من 8 سنوات عن توجيه الحلبوسي للتحقيق بشبهات الفساد التي تخص الشركات النفطية وتوزيع المنتجات.
كما يشير ذلك، إلى أنّ عمليات التهريب استمرت بعد ذلك لنحو 3 سنوات أخرى قبل أنّ يكشف النقاب عن متهمين بارزين بحجم قائد شرطة الطاقة ومسؤولي الوسط والشمال.
معضلة فارق الأسعار..
فارق أسعار الوقود ومشتقات النفط بين المحافظات الجنوبية وإقليم كردستان، يعد المحرك الرئيس لاستمرار عمليات التهريب، وفقًا لما يرى الباحث السياسي والاقتصادي نبيل جبار العلي. ويقول العلي في حديث لـ "الترا عراق"، إنّ "الربح الهائل من فارق الأسعار بات موردًا لا غنى عنه لتمويل جهات سياسية ومافيات".
ويضيف العلي، أنّ "الفائدة من تهريب الوقود والمشتقات النفطية تكاد تصل إلى 300%"، مشيرًا إلى أنّ " استمرار عمليات التهريب يأتي نتيجة اختلاف في منهجية الإنتاج والبيع للمشتقات النفطية بين المحافظات الاتحادية وإقليم كردستان".
أما أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة أحمد صدام فيبيّن أنّ "هناك جهات عدة من جماعات متنفذة وفصائل مسلحة، أو جماعات مسنودة من قبل أحزاب أو مسؤولين حكوميين، تسهم في تسهيل عملية التهريب، بدليل أنّ بعض الشحنات المهربة تمر وفق أوراق رسمية".
تبرز معضلة تفاوت الأسعار كأحد أبرز عوامل استمرار عمليات تهريب النفط
ويقول صدام لـ "الترا عراق"، إنّ "هذه الجهات تستغل ضعف الرقابة الحكومية وفروقات أسعار الوقود في الشمال أو حتى عبر البحر في البصرة".
وبينما يعد أستاذ الاقتصاد في جامعة البصرة، "هدر المال العام" من بين أهم أضرار تهريب النفط، يؤكدّ "المال المنهوب من تهريب النفط يؤدي إلى اختلال السوق جراء ارتفاع مستوى الكتلة النقدية التي تسهم في رفع الأسعار بشكل يؤثر سلبًا على معظم طبقات المجتمع، ويزيد الهوة بينها، إذ تستحوذ هذه الفئات المستفيدة والأطراف المتعاونة معها على حصص مالية غير قانونية تدفعهم إلى شراء الدور السكنية والأراضي بأغلى الأثمان مسببين إرباكًا في سوق العقار على سبيل المثال لا الحصر".
ولخطورة ذلك، نصت التشريعات القانونية في الدستور الدائم لعام 2005 على عقوبة الحبس أو السجن والغرامة بخمسة أضعاف المادة المهربة، كما منع القانون إخلاء سبيل المتهم وهو قيد التحقيق، مشترطًا صدور الحكم النهائي عليه لإخلاء سبيله أو قضاء المحكومية.
وتذهب وزارة النفط الاتحادية إلى ذات تشخيص الخبراء حول تأثير فارق الأسعار، الذي يصل أحيانًا إلى أكثر من 1000 دينار للتر الواحد، على تحفيز عمليات التهريب واتساعها.
ملياري دولار سنويًا
فيما يشخص الخبير النفطي نبيل المرسومي، عمليات تهريب النفط في العراق كأحد "أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد في المرحلة الحالية، التي تقوم بها شبكات منظمة بعضها متجذرة في عملها وواسعة الانتشار في الأوساط التي تتعاطى مع تجارة النفط ونقله"، مبينًا أنّ "حجم التهريب إلى دول الجوار يصل إلى نحو 93 ألف برميل يوميًا، وبقيمة ملياري دولار سنويًا".
ويؤكد المرسومي في تصريح لـ "الترا عراق"، أنّ "محافظة البصرة تشهد تهريب أكثر من 40 ألف برميل نفط يوميًا، حيث تنطلق مئات الصهاريج المحملة بالنفط الخام من مناطق نفط عراقية إلى المنافذ الحدودية البرية والبحرية عبر موانئ الفاو وخور الزبير وأبو فلوس؛ ويتم تحميل النفط الخام على متن بواخر لا تحمل أي أوراق رسمية".
تبلغ أموال تهريب النفط ملياري دولار سنويًا بحسب خبراء في الاقتصاد بنحو 93 ألف برميل يوميًا من حقول العراق
ويضيف، "يجري تهريب نحو 23 ألف برميل يوميًا من النفط من محافظتي صلاح الدين ونينوى من حقلي نجمة والقيارة، بالإضافة إلى تهريب نحو 30 ألف برميل من حقول كركوك، محملة لما لا يقل عن 150 صهريجًا لنقل النفط".
ويستذكر المرسومي، بيانات تعود لديوان الرقابة المالية لعام 2019، حيث يبين تقرير الديوان، أنّ "أحد الأمور التي تم رصدها هو التفاوت الكبير بين عمليات تسليم النفط والمشتقات للاستخدام الداخلي، أو التصدير، بسبب تهالك العدادات"، مشيرًا إلى أنّ "ما تم تشخيصه أيضًا في التقرير، كعامل يسهم في تسهيل عمليات التهريب، يتمثل بامتداد أنابيب النقل للخام أو المشتقات لمسافات طويلة جدًا دون حماية".
ويستدل المرسومي بتقرير ديوان الرقابة أيضًا، إذ يقول إنّ "أغلب منظومات القياس في مواقع المستهلكين للنفط الخام من الخط الاستراتيجي الواقع ضمن مسؤولية شركة نفط البصرة، غير مستوفية لمحدد انتظام القياس الوطني، فضلاً عن أنّ معظم العدادات وأجهزة المعايرة للمستهلكين منتهية الصلاحية".
ومع تعقيدات المشهد يستبعد الخبراء قدرة حكومة السوداني، أو حتى جديتها في إيقاف هدر مصدر المال الأول في العراق، بالنظر إلى الجهات المستفيدة، بضمنها أطراف في الإطار التنسيقي، ما يعني أنّ إمكانية ترشيد موارد البلاد وسحب فتيل غضب الشارع الناجم عن الفقر، والبطالة، والانهيار الصحي والخدمي، لن يكون ممكنًا في ظل النظام السياسي القائم.