أثار الحضور الفرنسي في مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة مؤخرًا، موجة من التساؤلات حول سبب وجود الرئيس إيمانويل ماكرون كدولة أوروبية وحيدة دون الدول الأخرى وسط الوفود العربية والإقليمية التي شاركت، لكن الحدث بحد ذاته، تضمن الكشف عن الرعاية الفرنسية المخطّط لها منذ قرابة العام بالاتفاق مع الحكومة العراقية للمؤتمر الذي أقيم في بغداد نهاية آب/أغسطس.
كشف مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة رعاية فرنسا له بالاتفاق مع الحكومة العراقية
وانطلقت أسئلة في وسائل الإعلام ومن قبل مراقبين عن الدور الذي تريد أن تلعبه فرنسا في العراق، وهل يكون شبيهًا بدورها في لبنان، وماذا يمكن أن ينتج هذا في مناطق النفوذ الأمريكية، وفي سياق التصريحات حول زيارة ماكرون إلى العراق والمشاركة في المؤتمر الأول من نوعه، استبق ذلك تصريحات من مستشار في قصر الاليزية نقلتها (فرانس 24) قائلًا إن "الرئيس الفرنسي يريد إثبات أن بلاده لا تزال تحتفظ بدور في المنطقة وتواصل مكافحة الإرهاب، وتدعم جهود العراق".
فرنسا اللاعب الجديد
وعلى صعيد قريب، تعاني لبنان من أزمة اقتصادية خانقة، إذ عمّق انفجار المرفأ وتفشي فيروس كورونا قبلها، الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد منذ صيف 2019. وبات أكثر من نصف اللبنانيين تحت خط الفقر، وفقدت الليرة اللبنانية أكثر من 90 في المئة من قيمتها أمام الدولار، فيما ارتفعت أسعار مواد أساسية بأكثر من 700 في المئة، ومع ذلك، تحاول فرنسا التدخل في هذا الوضع، لكنها تتعرّض للفشل، وفقًا لمراقبين.
اقرأ/ي أيضًا: مؤتمر بغداد: مسار العراق مرهون بانتخابات "دون تدخل"
وتحاول فرنسا أن تكون اللاعب الإقليمي في المنطقة لتحل مكان الولايات المتحدة بالكثير من الأماكن، بحسب الكاتب والصحافي اللبناني، طوني بولص، الذي يؤكد أن "أمريكا أصبحت كثيرة الأزمات مع كل التيارات الموجودة في البلدان، وخلقت لها أعداء كثر في الشرق الأوسط وتحديدًا العراق ولبنان، مبينًا في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "الاستقرار السياسي والمجتمعي في العراق ولبنان يتطلب توازنات إقليمية متشابهة، لذلك الفرنسيين وباعتدالهم في السياسة الخارجية، وضعفهم مقارنة بالأمريكان، يعتبرون أن لديهم فرصة للتفاهم مع جميع الأطراف في المنطقة بكل أريحية حتى مع النفوذ الإيراني، وهو تحديدًا ما حصل في قمة بغداد".
ويضيف بولص، أن "الفرنسيين لديهم علاقات جيدة مع السعودية وسيكون هناك زيارة مرتقبة لماكرون إلى الرياض، بالإضافة للعلاقة مع تركيا رغم الحساسية والخلافات، مشيرًا إلى أن "فرنسا بإمكانها الوصول لمحادثات ونقاشات مكثفة مع حزب الله الذي يعاني من عزلة دولية رغم وجود قنوات سرية قائمة منذ فترة بين الطرفين، إضافة لمحاولتها الاستفادة من مكاسب اقتصادية مع إيران خلال المرحلة المقبلة، خاصة بشأن مشاريع شركة توتال النفطية لاستخراج النفط الإيراني وشركة رينو لإنتاج السيارات ومشروع إنشاء معمل لها في إيران وغيرها من المشاريع".
وبينما يؤكد الكاتب، وجود مصلحة فرنسية تقتضي ترتيب الوضع الداخلي الإيراني، بالإضافة للتوجه الغربي لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط وإعلان العراق ولبنان كدول حياد عن النفوذ الإيراني، قال إن "اتفاق باريس وطهران سيخفّف الاحتقان الإقليمي، وحتى الحوار الذي ترعاه بغداد بين إيران والسعودية هو بوساطة فرنسية مخفية وبدأ فيه ماكرون في أيلول/سبتمبر 2020 خلال زيارته العراق".
المبادرة فشلت في لبنان
من جهة أخرى، يشير بولص إلى أن "مبادرة الرئيس الفرنسي فشلت في لبنان لضعف فرنسا دبلوماسيًا، حيث حاولت طرح مبادرة للسياسيين اللبنانيين بتشكيل حكومة خلال أسبوعين على أن تكون مهمتها 6 أشهر لتنفيذ خطة إصلاحات والتهيئة للانتخابات ومخاطبة البنك الدولي وصندوق النقد للحصول على الدعم المالي، مستدركًا "لكن فشلت المبادرة لعدم موافقة إيران لغاية الآن على تحييد لبنان عن الصراع، لكونها تعتبر نفسها قد حققت مكاسبًا في لبنان والعراق وسوريا ولا يمكنها التنازل أو التراجع عنها".
وما تريده فرنسا في لبنان، هو ذات الهدف الذي تريده في العراق، ولا تزال إيران ترفض كل المقترحات الفرنسية، بما فيها الأهداف الخفية لمؤتمر بغداد الأخير الذي سعت باريس لترطيب الأجواب بين طهران والعواصم الخليجية، وفقًا للكاتب والصحافي اللبناني.
فرنسا وإيران بمكان واحد
لكن المحلّل السياسي اللبناني، أمين بشير يختلف مع بولص، ويرى أن إيران أينما وجدت توجد فرنسا، ويقول إن "إعلان المبادرات في العراق ولبنان يتشابه، مستذكرًا أنه "حينما قررت فرنسا الدخول في الأزمة اللبنانية جربت مخابراتها زرع الإشاعات والانهيار بروح اللبنانيين بوجود فساد وانهيار اقتصادي وسوء تدبير، فيما لم يتطرقوا لوجود النفوذ الإيراني في البلد وهيمنة حزب الله على الأوضاع".
ويبيّن بشير، أن "باريس تبحث عن مصالحها، لذلك صدرت نفسها كدولة عظمى قريبة للشعب اللبناني من أي دولة أخرى ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، كما صدرت نفسها كقوة يمكنها مجابهة إيران والحوار معها، فضلًا عن التفاوض مع حزب الله كجناح سياسي لطموحها أيضًا بقيادة الاتحاد الأوروبي، وهي تسعى لذلك بقوة منذ دخلت في وضع حل للمفاوضات النووية لتقريب وجهات النظر للتخوف الأمريكي من ترك إيران تعمل بلا ضابط لخطواتها".
ويقول بشير لـ"ألترا عراق"، إن "مبادرة فرنسا في لبنان أعطت شرعية للنظام الفاسد الموالي لإيران، وهي بذلك عظمت الأزمة الاقتصادية والمجتمعية أكثر من السابق، وستعمل نفس الفعل في العراق بدعم النظام الحالي الخاضع للنفوذ الإيراني من أجل كسب مصالح أخرى لها".
وهناك رأي يقول إن الفرنسيين لا يريدون الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية كقوة حامية لمصالح الغرب في المنطقة، ويريدون الآن الأخذ بزمام المبادرة، وفقًا للأكاديمي والكاتب، مسلم عبّاس، والذي يشير إلى أن "مشاركة الرئيس الفرنسي في مؤتمر بغداد، لا يخرج عن كونه استعراض القوة، وهدفه الأساس تثبيت إقدام فرنسا في الشرق الأوسط بظل الفوضى الكبيرة التي تشهدها المنطقة".
ويؤكد عباس لـ"ألترا عراق"، أن "باريس وأوروبا بجميع أطرافها معنية باستقرار لبنان والعراق والدول الأخرى، لأن أي اضطراب في المنطقة سوف يصل مداه إلى الاتحاد الأوروبي، كما حدث في سوريا التي تسببت بموجة هجرة كبيرة، ومن ثم فإن تعزيز التواجد الفرنسي في المنطقة يزيد من فرصها في فرض الشروط التي تخدم مصالحها".
لا بديل للنفوذ الأمريكي
وفي السياق، يختلف أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكوفة، أياد العنبر، مع التهويل الحاصل للدور الفرنسي في المنطقة والحضور إلى بغداد، لافتًا إلى أن "الأخير فشل بتقريب وجهات النظر بين القيادات السياسية في لبنان، حيث وجد أن هناك ممانعة من دول كبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وحتى دول الخليج بأن يكون هناك محاولة ودور للتأثير وترتيب الأوضاع بإرادة فرنسية".
يستبعد الأكاديمي أياد العنبر وجود أجندة فرنسية في العراق كما حصل في لبنان
ويوضح العنبر في حديث لـ"ألترا عراق"، أن "الوضع في لبنان لم يعد بالإمكان إصلاحه تحديدًا من قبل فرنسا، ولذلك حاول ماكرون تمهيد الأجواء إقليميًا عن طريق مؤتمر بغداد، مستدركًا "لكن من المستبعد أن هناك أجندة فرنسية في العراق كما يحصل في لبنان"، فيما أشار إلى "استحالة طرح فرضية وجود بديل للنفوذ الأمريكي في العراق والمنطقة، لكون نفوذ واشنطن لا يتمثل بالقوة العسكرية فقط، وإنما هي تسيطر على الوضع ودعم العملية السياسية في العراق، وبرفع يدها سيشهد البلد تدهورًا ومحاولات عدة لفرض أجندات إقليمية بأذرع داخلية".
اقرأ/ي أيضًا:
قمة بغداد والتوقيت الحرج.. هل يستطيع العراق حصد نتائج حقيقية؟