ليس غريبًا اهتمام العالم بأسره في انتخابات الرئاسة الأمريكية ليس من منطلق الفضول لمعرفة حاكم الدولة العظمى، ولا يقتصر ذلك على دولنا المنكوبة فحسب، إذ تؤثر نتائج الانتخابات بطبيعة الحال على علاقات النخب الحاكمة بالشخصية التي تحظى بالجلوس في البيت الأبيض. تتوقف العديد من التوجهات السياسية والعسكرية على نوع الحزب الحاكم في الدولة الكبيرة، وتتأثر الشركات والمؤسسات الكبرى بالسياسات الاقتصادية والحمائية وغيرها، المتخذة في واشنطن، فضلًا عن القضايا العسكرية وملفات الحروب حول الأرض.
المتحججون بحب ترامب عداءً بإيران، ينسون أو يتناسون تمكّن الجناح اليميني الإيراني في عهده، وتغوله في المنطقة رغم تشديد العقوبات والانسحاب من النووي
في منطقتنا المنكوبة المنقسمة على ذاتها، لا تفوّت نخبها وشعوبها فرصة الانقسام على صراعٍ في أقصى الأرض، لتكون بايدنية وترامبية في لعبة ديمقراطية تفتقدها هي في بلدانها، في تجلٍ لحالة الضياع وعدم الاستقرار وغياب الرؤية الاستراتيجية للدولة لصالح رؤية عشائرية طائفية (بمعنى الجماعة) لا تختلف كثيرًا عن حقائق أدنى مستوى في نظم المحاصصة كالعراق.
لكن ما مبررات تلك الانقسامات ظاهريًا؟
قبل نقاش الآراء، لا بد من ذكر نقطة مبدئية، إذ ليس كل ما يَصدر من الأنظمة هو نتاج رأي عقلاني اتجاه الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وما نراه من مبالغة في الكثير من وسائل الإعلام هو تفاعل مبنٍ على مصالح مالكيها، سواء أكانوا سياسيين في السلطة أو رجال أعمال لهم أجندتهم، وترجمةً لمزاجٍ شخصي للممولين خاصةً في دول الخليج.
اقرأ/ي أيضًا: جهاز الخدمة السريّة الأمريكي يرسل تعزيزات إلى بايدن تحسبًا لإعلان فوزه
في منطقتنا المنكوبة، ينتظر الكيان الصهيوني وتحديدًا جناحه اليميني المتطرف، بالتأكيد، فوز ترامب الذي أنهى أعرافًا طويلة الأمد بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس والاعتراف بالجولان إسرائيلية، إضافة إلى حفلات التطبيع العربي مع الكيان في عهده، وانسحابه من الاتفاق النووي مع إيران الذي رفضته إسرائيل، وفرضه المزيد من العقوبات على طهران.
أما طهران، فلا يُمكن لمتابعٍ يحترم منطق التاريخ الاعتقاد بأن الديمقراطيين هم "المنقذ" للنظام الإيراني الذي يرزع تحت العقوبات منذ عام 1979 بتعاقب الحزبين الرئيسين على الحكم في واشنطن. نعم، أزاح باراك أوباما القليل من الحمل عن كاهل الاقتصاد الإيراني بالاتفاق النووي لكنه سلبها هذا العامل التفاوضي القوي وفسح المجال ـ عمليًا ـ لسلفه أن يفرض المزيد من الشروط. مع ذلك، ليس من الغريب أن تبحث أجنحة سياسية في إيران عن فوزٍ ديمقراطي للعودة إلى الاتفاق النووي أو اتفاق جديد يجعلها تتنفس من جديد.
في ظل هذا الصراع الثنائي في المنطقة، يتواجد العرب في العراق والشام الكبير والخليج على الهامش. ينقسمون إلى حيث ينقسم المتصارعون الأوائل. ولأن انقسامهم عبثي، فأن الأسباب هي أكثر عبثية من الانقسام ذاته. إن الانحياز لطرف على آخر في حالتنا العربية ينشأ من حالة عداء لفئة أو دولة أو طائفة، ولمصالح ضيقة غبية لا تحمل من الرؤى الاستراتيجية شيئًا. على سبيل المثال، هضم بعض الدول للابتزاز الترامبي العلني ودفع الدولارات له مقابل السكوت عن انتهاكات حقوق الإنسان على المستوى المحلي والخارجي، فمن يرفع شعار المال أولًا غير مُطالب من جمهوره بالدفاع عن قيم أخلاقية خارج بلاده وبإمكانه التغاضي عن أية حماقة يرتكبها حاكم في أقاصي الأرض، وهي ميزة جيدة للمسؤول العربي.
الآن، بغض النظر عن لا جدوى فكرة التعلق بحبال الآخر، ومع الأخذ بحسن النوايا، فالمتحججون بحب ترامب عداءً بإيران، ينسون أو يتناسون تمكّن الجناح اليميني الإيراني في عهده، وتغوله في المنطقة رغم تشديد العقوبات والانسحاب من النووي. وهم لفرط غوصهم في التركيز على العداء الأعمى دفعوا المليارات على أمل ردع إيران دون أن تُردع.
وإن كان العداءُ للصهاينة مفتاحًا لتأييد بايدن، فللناخبين اليهود الأمريكان رأي آخر، وقد صوتوا بأكثريتهم لهيلاري كلينتون (الديمقراطية) في الانتخابات قبل الأخيرة كما تشير الإحصاءات، وتفصح استطلاعات عن تصويت أغلبيتهم لبايدن على حساب ترامب. والأهم من ذلك، هو الاتجاه التصاعدي في الهيمنة والاستيطان الإسرائيلي على الأراضي العربية الفلسطينية وتمكّنها في المنطقة طيلة العقود الماضية مع تقلّب الحزبين على كرسي الحكم رغم اندفاع بعض الرؤساء مقارنةً بآخرين في الاتجاه الصهيوني المتطرف.
الملخّص من الفقرتين أعلاه هو تهافت فكرة الاندفاع نحو من يعادي خصومنا دون النظر إلى الوقائع والنتائج.
في العراق المقسوم على نفسه أبد الدهر، تعرضت البلاد لحصار اقتصادي مميت وهجوم شامل في عهد جمهوري، ثم أكمل الحصار ديمقراطيٌ وزاد عليه بضربات عسكرية خاطفة، فجاء جمهوري آخر ليُجهز على ما تبقى من الدولة باحتلال صارخ أنهى البنى التحتية وقتل وأعاق وشرّد الملايين وسلّم البلاد وثرواتها لمجموعة لصوص يحكمون أرضًا مقسمةً، فكانت الحرب الطائفية في ولايته الثانية، ثم تفرّج الديمقراطي الجديد على احتلال العراق من أعتى التنظيمات الإرهابية التي تركت محافظات بأسرها مدمرة بالكامل. وبعد ذلك، لا زال بعض ممن لا يحترمون عقولهم (عند حسن النوايا) يدفعون الناس الذين فقدوا الأمل، لتصديق الأوهام بوجود "مخلّص" من بطش الإيرانيين يدعى ترامب، رغم أن نفوذ الإيرانيين وحلفائهم لم يشهد له مثيلًا كما جرى في فترة حكم ترامب، حتى أصبحت دولة العراق تُدار من مدير مكتب لا علاقة له بالعراق، إضافة إلى تغلغل الجارة الشرقية في مفاصل الدولة كافة خلال فترة 2016 - 2020.
لقد حوصرت السفارة الأمريكية في زمن ترامب من قبل حلفاء إيران وتعرضت بواباتها للتكسير والحرق في أكثر منطقة محصنة بقلب بغداد، في مشهد أعاد الذاكرة إلى أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران عام 1979 مع الأخذ بردة الفعل الكبيرة التي اتخذتها إدارة ترامب على هذا الحدث التاريخي بعد ذلك باغتيال قاسم سليماني. ثم أن قصف المنطقة الخضراء حيث سفارة واشنطن لم يعد خبرًا عاجلًا في عهد ترامب.
لا زال بعض ممن لا يحترمون عقولهم يدفعون الناس الذين فقدوا الأمل، لتصديق الأوهام بوجود "مخلّص" من بطش الإيرانيين يدعى ترامب
في بلاد هي ملعب لتصفية الحسابات، من الطبيعي أن يهتم مواطنوها بنتيجة الانتخابات الأميركية بوصفها دولة عظمى تؤثر سياساتها على العالم، لكن المشكلة التي نؤشرها هي التعويل المبالغ به على طرف لا يهتم سوى لرأي الناخب الأمريكي المشغول بمشكلاته الاقتصادية والجائحة المتفشية في بلاده أكثر من رأي بغداد وطهران والرياض.
اقرأ/ي أيضًا: بايدن ينتزع الصدارة في بنسلفانيا ومواقع أمريكية تبادر بالإعلان عن فوزه
إن فرض ترامب لمزيد العقوبات الاقتصادية على إيران - وهي حجّة المؤيدين له في بلداننا - ترافقت مع استثناء للعراق من الاستيراد، ولا زالت مليارات الدولارات حتى اللحظة تتدفق من إيرادات النفط نحو الشرق مقابل الكهرباء والغاز والبضائع الأخرى، وإن الخطوة الواقعية التالية في حال فوز ترامب واستمرار الوضع على ما هو عليه هي إضافة العراق إلى قائمة العقوبات لعدم التزامه بالشروط الأمريكية.
حين خرج العراقيون في تشرين مطالبين بوطنٍ محترمٍ لا تعبث به إيران وغيرها، وتهدر ثرواته، وتحمي فاسديه وميليشياته، رُدُّوا بمختلف أنواع الأسلحة، ومورست ضدهم شتى أنواع التهديد والترهيب من خطف واغتيال وزرع القنابل والهجوم بالأسلحة المتوسطة، ولم يحرّك المخلّص ترامب ساكنًا، بل هو غير مُطالب بالتحرك من جانب رؤيتنا الوطنية الديمقراطية، ومن جانب سياساته وتعهداته بالتركيز على أمريكا أولًا، دون الدخول في صراعات الشرق الأوسط غير المنتهية.
نقول ذلك ليس دعوةً لعدم التفاعل مع حدث عالمي، بل نحن ضد تتفيه الأمور وتبسيطها كما يفعل بعض الداعين للابتعاد عن التسييس والنقاش خارج الحدود، لكن الغرض من قولنا هو التوقف عن انتظار الآخر والاعتماد على الذات حتى لا يُسيطر الإحباط مستقبلًا على إرادتنا.
اقرأ/ي أيضًا:
ما هي قوانين إعادة فرز الأصوات في الولايات الحاسمة في الرئاسيات الأمريكية؟