بعد سقوط النظام العراقي عام 2003، شارك التيار الصدري بعمليات ضد قوات الاحتلال الأمريكي، لكنه أيضًا، كان جزءًا من الحرب الطائفية التي وقعت بين الميليشيات الشيعية ـ السنية، وراح ضحيتها آلاف العراقيين من الطائفتين، وعلى أثر الضغوطات الداخلية والخارجية، أجبر الصدر على تجميد ميليشيا "جيش المهدي"، كشرط للمشاركة السياسية مع أحزاب الإسلام السياسي الشيعي. بعدها أخذ التيار الصدري يستولي على مناصب الدولة التشريعية والتنفيذية تدريجيًا، وحاول الصدر أن يضع قدمًا في الحكومة وقدمًا في المعارضة، ليمتص غضب الشارع ويوظفه لصالح كتلته عن طريق الضغط السياسي باتجاه الكتل الأخرى؛ وبذلك، أصبحت الكتلة الصدرية رقمًا كبيرًا يصعب تجاهله في المشهد السياسي العراقي. ساعد البعض من المثقفين والكتّاب والصحفيين على تلميع صورة الصدر وتياره السياسي، وهذا حصل في أزمنة مختلفة ولأسباب مختلفة أيضًا، بررها المثقفون بطرق عدة؛ منها أسباب سياسية وأخرى فكرية، سنعرضها بإيجاز في هذه المقالة البسيطة. ولكن قبل أن أعرض الأسباب التي ادّعى بها البعض، أودّ سرد بعض الذكريات التي ما زالت عالقة منذ زمن نشاط "جيش المهدي".
ذاكرة الطفولة
كنت مراهقًا عندما سيطرت ميليشيا "جيش المهدي" على بعض المناطق الشيعية في بغداد، وأتذكر كيف كانت صالونات الحلاقة الرجالية والنسائية تتعرض إلى تهديدات من أفراد تلك الميليشيا، لأسباب كثيرة، منها حرمة وضع صور للنساء في دعاية الصالونات، كما تمّ تشويه الإعلانات التي تحتوي على صور بالأصباغ لإخفاء ملامحها. أحد أقاربي كان ضحية لجيش المهدي، وإن كان ينتمي إلى نفس طائفة الصدر، لكنها لم تشفع له؛ فتم تهديده ومن ثمّ قتله، وكان سبب قتله، هو شرب الخمور!
تحولت فكرة الاحتجاج المشترك بين الشيوعيين والصدريين إلى تزاوج انتخابي أفرز قائمة "سائرون" الانتخابية
أما الذاكرة الأخيرة، فتتعلق بدخولنا إلى إحدى محطّات الوقود، وحينها كانت أزمة وقود في كل العراق، وفي أثناء وقوفنا بطابور طويل من السيارات، كنا نستمع لكاظم الساهر، قدم باتجاهنا مقاتل في جيش المهدي، وصرخ بوجهنا ووبخنا لسماعنا الأغاني وطلب الكاسيت من السائق، كسره وذهب. أنا الذي انتمي إلى طائفتين، كنت لا أرى فرقًا بين تصرفات تنظيم القاعدة، الذي كان يسيطر على منطقتنا، وبين جيش المهدي الذي كان يسيطر على منطقة أقاربي، ذات الأغلبية الشيعية، كلاهما وجهان لعملة واحدة، عملة الترهيب والتهديد والقتل على الهوية.
رؤية المثقف الناقصة
كما ذكرنا في مقدمة المقال، أن مثقفين وبعض الكتاب ساهموا في تلميع وتبييض هذه الحركة التي لطخ تاريخها بدماء العراقيين، وكان هذا التلميع والتبيض لتاريخ التيار الصدري وللصدر نفسه، له تبريراته من المثقفين والكتاب. كان الفريق الأول قد بدأ بدعم الصدر أثناء حكم المالكي، أما الفريق الثاني جاء عام 2016 وقبل انتخابات أيار/مايو 2018.
اقرأ/ي أيضًا: قيادي صدري: نشر المسلحين لم يزعج الكاظمي.. و"قُحّ" سيحول العراق إلى سنغافورة
الفريق الأول الذي دعم الصدر، هم بعض من كتّاب صحيفة المدى وعلى رأسهم الكاتب والصحفي سرمد الطائي، والذي كان داعمًا للصدر، ليس لأن الأخير له رؤية جديدة، وإنما جاء دعم الطائي وآخرين لأسباب تتعلّق بفكرة إزاحة المالكي من الحكم، و"كبح جماحه" على حدّ تعبير سرمد الطائي، ولنفس السبب، دعم الطائي ومثقفين آخرين عبد الملك السعدي كشخصية وسطية، والسعدي في الحقيقة كان طائفيًا، وبيانته كانت خير دليل.
أما الفريق الثاني، جاء نتيجة التظاهرات التي وقعت أثناء حكم رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي، التي كان يسيطر عليها الشيوعيون، ومن بعدهم الصدريين. دعم التقارب الشيوعي ـ الصدري من قبل كتّاب ومثقفين، وكان على رأسهم الشاعر العراقي أحمد عبد الحسين، وجاسم الحلفي ممثلًا للحزب الشيوعي، والراحل عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار، وقبل هؤلاء، أخبرني صديق على أن الكاتب في مجال علم النفس السياسي، فارس كمال نظمي، كان المنظّر الأول للتقارب بين التيار المدني والتيار الصدري، حيث سمى الأخير بـ"البروليتاريا الدينية". وتحوّلت فكرة الاحتجاج المشترك بين الشيوعيين والصدريين إلى تزاوج انتخابي، أفرز قائمة "سائرون" الانتخابية التي خاضت القائمة الانتخابات، وفاز الشيوعيون بعدد من المقاعد. كانت قائمة سائرون تسوّق على أنها قائمة الإصلاح والمعارضة، بالإضافة إلى تمثيل الاحتجاجات. لكن المفارقة، كانت سائرون المتمثلة بزعيمها مقتدى الصدر، لعبت دورًا كبيرًا بتشكيل حكومة عادل عبد المهدي التي اتهمت بقتل المتظاهرين عام 2019 – 2020.
ضحايا القلم والبندقية
في الأيام الأخيرة، اُتهم التيار الصدري ومقتدى الصدر بترهيب نشطاء وقتل متظاهرين في احتجاجات تشرين الأول/أكتوبر، وهدد المتظاهرون بشكل علني من مقتدى الصدر ووزيره صالح محمد العراقي عبر تغريدات على حساباتهم في "تويتر"، ووثق ناشطون مدنيون الاعتداءات والتهديدات التي كان يتعرض لها متظاهرو المحافظات الجنوبية، وبالأخص النجف والناصرية. وبرأيي، يتحمل المثقف جزءًا من هذه المسؤولية، إذ أنه شريك للصدر في مواقفه وآراءه، وهذا يتطّلب مراجعة صريحة وشجاعة لمواقف المثقفين، واعتذارًا للضحايا الذين وقعوا على أيدي التيار الذي روّجوا له ودعموه في وقت سابق.
اقرأ/ي أيضًا: