ليس هناك امتيازًا أقوى من الهوية العشائرية في العراق، فهي تمنح السلطة والاعتبار والمال، الصفات الثلاث التي تقع الغريزة الإنسانية أمامها صريعة مأسورة. ولهيمنة العشيرة في العراق، جذور تاريخية عميقة، ووجود متأصل في بنية المجتمع، وصلت إلى أن يتعامل الاحتلال البريطاني معها كواقع استراتيجي قبل تأسيس الدولة العراقية عام 1921، فقد قام بتشكيل قانون "دعاوى العشائر" عام 1916، وظل ساريًا إلى عام 1958 بعد استبدال النظام الملكي بنظام جمهوري.
فرص نظام صدام حسين، الذي كان يقوم على سردية قومية، تعاملًا راسخًا مع العشيرة، وأعاد مركزيتها في العراق
أراد النظام الجمهوري الجديد المسير بقيم الدولة الحديثة، ذات المؤسسات المسيطرة والحاكمة على سلوك المواطنين وثقافتهم العامة، حتى عمد إلى إلغاء الألقاب في السبعينات من القرن المنصرم. لكن الحكومات المتعاقبة على العراق، ومنها الحكومة البديلة عن النظام الملكي، ولأنها لا تقوم على أساس ديمقراطي متين، وتتخذ من الاستبداد نمطًا أساسيًا لاستمرارها، فإنها بقيت تتأرجح بين الاعتماد على العشيرة تارة، وسطوة العنف تارة أخرى، وبقيت تُعاني بالأصل من خلل في الهوية السياسية للدولة، لأن هدفها الأساس هو السلطة والتفرد بها، وليس الأمة ومستقبلها.
عشيرة تحكم نظامًا قوميًا
النظام البعثي السابق، الذي كان يرأسه صدام حسين، كان ذا أبعاد قومية ليست لها علاقة بالعشيرة كما هو مفترض، إذ أدى فشل الدولة القومية في الوطن العربي إلى نشوء حروب الطوائف وهيمنة الهويات الفرعية، لكن النظام البعثي والذي اتخذ أيضًا من الاستبداد ركيزة أساسية لنظامه، اعتمد على العشيرة، وأعطى لها سلطة، بسبب شعوره بالإفلاس السياسي عام 1991 بعد أن انتفضت مناطق عديدة في العراق ضده، وضعفت مؤسسات الدولة، فحاول أن يستقطب العشائر لإرجاع هيبة النظام وتقويته على حساب المشاكل السياسية التي خلقها الاستبداد وتعدّد الحروب التي لا طائل منها ولا نتيجة، لتنتعش العشيرة من جديد، خاصة مع إغداق صدام حسين على شيوخها بالهدايا والهبات طوال فترة التسعينات، وصلت إلى الأسلحة الشخصية.
اقرأ/ي أيضًا: "الدعاية السوداء" في الانتخابات العراقية.. المال في خدمة الطائفية والفساد
وصل العراق إلى 2003 ولم تبق أي ملامح لمجتمع مدني واضح فيه، مع تدمير الطبقة الوسطى، خصوصًا وأن هذا النظام، كان يتكوّن من عشيرة، إذ يسيطر أقارب صدام حسين على معظم مؤسسات الدولة المهمة بشتى صنوفها وأركانها، ولأن "أخلاق الناس تتبع سلوك الحاكم" وأن الدولة الحديثة هي المجسد للأخلاق الجمعية، فإن صعود نجم العشيرة في الواقع العراقي كان نتيجة طبيعية وحتمية عما سبق.
بعد الغزو الأمريكي للعراق والتدمير المتعمد لمؤسسات الدولة وحل الجيش العراقي، وبعد أن رفع غطاء الاستبداد وتدفقت أمراضه، لجأ الناس إلى هوياتهم الفرعية بشكل مطلق، إذ صارت الهويتان، الطائفية والعشائرية، قاربي نجاة وأمان بالنسبة للجماعات العراقية التي ساهم الاحتلال الأمريكي في تفتيتها وتعميق الخلاف بينها وإضفاء الشرعية عليه، من خلال تطبيق نظام الديمقراطية التوافقية "المحاصصة" على شكل النظام السياسي في العراق، والذي يحوّل الهويات المكوناتية بإرثها التاريخي وتجلياتها الاجتماعية والدينية إلى دائرة التوظيف السياسي والتنافس حول الوصول إلى السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وقد وصلت المحاصصة في العراق إلى أن يكون اختيار مدراء الدوائر ومؤسسات الدولة حسب انتمائهم المذهبي والمناطقي، وصولًا للعشائري، وربّما يدخلون في خلاف شديد، حول من أحق في هذا المنصب، المنتمي لهذه الجماعة أو تلك.
بعد غزو العراق وتفكك الدولة، لجأ الناس إلى هوياتهم الفرعية كملاذ في وجع الفراغ المديني
لم تُدرك هذه الطبقة السياسية مشاكل المحاصصة، وليس فيها من هو صاحب هموم وطنية خالصة للعمل على إنقاذ الهوية العراقية من أمراضها التاريخية، إنما يعتبر التمثيل المكوناتي طريقًا سهلًا وغير متعب، وبسيطًا للوصول إلى المنصب، فلا بأس أن تكون فارغًا من أي إنجاز سياسي في العراق وتصل إلى منصب وزارة أو تتمتع بمقعد برلماني، ما دمت تمتلك عشيرة واسعة، تستطيع أن تملأ الصندوق الانتخابي لك.
هذه مشاكل حاضرة في جذر النظام السياسي العراقي، لكنها أزمات تتجلى بشكل أوضح مع كل انتخابات نيابية أو محلية، على اعتبار أن العشيرة جزء من وسائل التحشيد في الانتخابات لا الكفاءة أو الخبرة، وعلى اعتبار أنها جماعات جاهزة تتحرّك بأمر رجل واحد يدعى شيخ العشيرة أو سيدها بالوراثة، وبالتالي لا يتكلف المرشح للانتخابات إلا بإرضاء شيخ العشيرة والتقرب منه، ويقدم له الوعود في إطلاق التعيينات وإعطاء الامتيازات بعد الفوز، ليحشد الشيخ عشيرته لانتخاب هذا الابن البار، المرشح ضمن "عملية ديمقراطية".
العشيرة "تمثل" نوّابها
لا أحد ضمن آلاف المرشحين للانتخابات النيابية في العراق تخلص من اللجوء نحو عشيرته سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فعضوية البرلمان لأربع سنوات تجعل المرشحين يتراكضون نحو مضارب عشائرهم للحصول على أصواتهم دون تفكير في مستقبل الهوية الوطنية وما هي مآلات هذا السلوك وتأثيره على شكل النظام السياسي في البلاد بشكل عام، فالانتماء العشائري صار هوية بديلة يمر بها المواطنون إلى مؤسسات الدولة بشكلها المدني والعسكري، إضافة إلى أن هذا التخادم المعلن منه وغير المعلن بين الطبقة السياسية والجماعات العشائرية، جعل أصحاب النفوذ في السلطة التشريعية والتنفيذية يغضون النظر عن الكثير من الانتهاكات التي تقدم عليها العشائر في العراق، لأنهم بحاجة إليهم في كل دورة برلمانية.
اقرأ/ي أيضًا: الطائفية في دعاية الانتخابات العراقية.. رأسمال بديل عن البرامج والإنجازات
في المناطق الجنوبية تغلق مناطق كبيرة بسبب معركة بين عشيرتين على أسباب مادية بسيطة، ويقتل العشرات، وتعطل مصالح الدولة والناس، مع حفلات مجانية لإرهاب المدنيين وتخويفهم بأصوات النيران التي تستمر لأيام، وأحياناً لأشهر. إنها معركة بين جماعتين تقدمان مشاهد سينمائية مجّانية من مراحل ما قبل الدولة، من أن يقول لها أحد: كفى.
تتكفل العشيرة في تقديم المنصب لابنها البار عند كل دورة برلمانية، ويتعهد هو بخدمتها بكافة السبل القانونية وغير القانونية، والمساهمة في السكوت عن الانتهاكات التي تقدم عليها بحق الدولة والقانون. ففي واحدة من المشاهد المؤلمة للعملية السياسية في العراق أن السياسي الفاسد أو المسؤول المرتشي، حين يتعرّض للاستجواب تحت قبة البرلمان، كما يقتضي العمل التشريعي في مراقبة الأداء، يلجأ نحو عشيرته لتقوم بتهديد الجهة الحزبية المستجوبة، وأحيانًا تهدد عشيرة الذي قام بالاستجواب. لهذا تعتبر هذه العشائر أن بعض المقاعد والمناصب من حصتها، وملكيتها الخاصة، ولا يحق لأحد أن يهددها أو ينافسها، حتى وإن كانت تضر المواطن، والمصلحة الوطنية العامة لمؤسسات الدولة.
وقد حدث مرة أن توجهت النائبة حنان الفتلاوي إلى حصون عشيرتها لأن خلافًا "سياسيًا" نشب بينها وبين تيّار الحكمة، متمثلًا بالناطق الرسمي عنه بليغ أبو كلل، حتى أرسلت عشيرة النائبة الفتلاوي تهديدًا لعشيرة أبو كلل قبل أن يحضر إلى مضيف العشيرة ويعتذر، في مشهد يلاحظ فيه أن دائرة الخلاف السياسي تحوّلت إلى المضيف العشائري.
تتكفل العشيرة في العراق في تقديم المنصب لابنها البار عند كل دورة برلمانية، ويتعهد هو بخدمتها بكافة السبل القانونية وغير القانونية
وتعرّض سليم الجبوري، رئيس البرلمان العراقي إلى محاولة للإقالة، من خلال اجتماع مجلس النواب على رفضه بالأغلبية، لكن عشيرته خرجت في مؤتمر صحفي، رافضة ما يحدث له، فضلاً عن احتجاج عشيرة وزير الدفاع السابق خالد العبيدي، حين تعرّض إلى استجواب في البرلمان. وثمة صور كثيرة من تجليات العشيرة وأنساقها على سلوك الطبقة السياسية يعرضها المشهد العراقي باستمرار.
عشائرية مدنية!
في هذه الانتخابات، ظهر توجه جديد مختلف عن التوجه المحاصصاتي التقليدي في العراق، وهو الأحزاب التي تسمي أنفسها "مدنية"، بعد فشل أحزاب الإسلام السياسي في العراق. وبعدما ظهرت حركات احتجاجية منذ 2011 أطلق عليها الحركة المدنية، قام الكثير من قادة الأحزاب الإسلامية برمي العباءة الدينية، والتوجه نحو "المدنية" لإعادة إنتاج أنفسهم، وبالرغم أنهم لن يتحدثوا عن شكل "الدولة المدنية" التي يؤمنون بها، وما هو وجودها في الفقه السياسي، وهل يحتاج السياق العراقي إلى "دولة مدنية" أم دولة وطنية، لكنها أخذت تنمو وتنتشر في الأوساط وصار لها اسم في أطر التحشيد والانتخاب.
لكن هذه الأحزاب المدنية، لم تتخلص من ألقابها العشائرية، بل إن المرشحين الداخلين ضمن هذه القوائم المدنية يؤكدون على ألقابهم، وأنهم ينتمون إلى هذه العشائر، وبعضهم يذهب إلى عشيرته داعيًا إياهم إلى انتخابه، بالرغم من أن كلمة المدنية في العراق تجيء في سياق من الحديث عن العلمانية، وتعطي دلالات كثيرة عن أن الدولة لا ترجع إلى أي هوية فرعية، لكن التنازل عن العشيرة يظل أمرًا خطيرًا بالنسبة لهؤلاء المرشحين، فهم جماعة تمثل رأسمال معنوي، ومحاربته ومصارحة الناس بآثاره السلبية تعني خسارة الكثير من الامتيازات، على مستوى العشيرة والنخب السياسية.
مضائف العشائر زاهية وعامرة في الانتخابات، والمضيف هو المكان الذي تتجمع فيه الجماعة العشائرية، وغالبًا ما يكون في بيت سيّد العشيرة وشيخها الكبير. في الانتخابات تفتح المضائف أبوابها طوال أيام الأسبوع، وتنتعش فيها الولائم الدسمة لأبناء العشيرة، ويجري هذا بدعم مباشر من المرشح لشيخ العشيرة، حتى ينظر الشيخ إليهم، ويقول: انتخبوا فلان، وبالتالي تبقى العشيرة طوال فترة الدعاية الانتخابية، تأكل من هذه الولائم وتدعو لانتخاب صاحب الوليمة، ولا يستثنى من هذا السلوك حتى المرشحين من ذوي التوجه المدني، على اعتبار أن هناك تحالفًا وتخادمًا غير معلن بين العشيرة والتدين الشعبي في العراق.
في سياق سيطرة العشيرة على جل المترشحين للانتخابات، ينظر المراقب لهذه الدورة بيأس وتشاؤم كبيرين. وتبدو العملية الانتخابية مشهدية أبعد ما تكون عن الديمقراطية. فشرط الأخيرة هو أن يتساجل المتنافسون على السلطة، حول مصلحة الأمة وطرق تحقيقها، وليس مصلحة العشيرة أو الطائفة بالتأكيد.
اقرأ/ي أيضًا:
مقاطعة الانتخابات العراقية.. مواجهة سلمية ضد محاصصة ما بعد الغزو الأمريكي