ما ان يقترب موسم الدعاية الانتخابية في العراق، حتى يحتدم الصراع بين القوى السياسية بمختلف توجهاتها المذهبية والقومية والمناطقية. إنه تجلٍ واضح للانقسام الحاصل في بنية النظام العراقي الذي سقط صريعًا بكل أجهزته الإدارية والتشريعية، أمام هيمنة الهويات الفرعية التي تفرض قبضتها بقوّة على وسائل التحشيد، في حمى التنافس الانتخابي ودعاياته باستخدام الطائفة والدين والعشيرة، كهويات تمييزية، يعتقد المرشحون لهذه الانتخابات، أنها ستمنحهم عضوية البرلمان لأربع سنوات.
يصل الصراع الانتخابي في العراق إلى تبادل الاتهامات الطائفية بين المرشحين، والاستعراض التمييزي، ومحاولة اللعب على إحساس المظلومية
لا يقف الصراع في العراق عند إطلاق الاتهامات وضرب الخصوم بشكل سياسي تقليدي متبع في كثير من الدول التي تعيش حالة ديمقراطية معينة، أو الصراعات التي تشهدها الأنظمة الديمقراطية الحديثة، خاصة في الانتخابات؛ إنما يصل إلى تبادل الاتهامات طائفيًا، والاستعراض بشكل تمييزي، واستنهاض الغبن التاريخي، ومحاولة اللعب على مشاعر المظلومية التي كانت نتيجة حتمية عن الفشل السياسي الذي يعيش تحت وطأته كل عراقي، دون تمييز أو تشخيص.
اقرأ/ي أيضًا: الانتخابات العراقية.. ائتلافات بلا برامج ومتاجرة بـ"النصر على داعش"
في هذه الانتخابات، يحاول المرشحون الابتعاد عن التصريحات الطائفية المباشرة، خاصةً وأن هذه الورقة صارت لا تنفع كثيرًا بحسب إدراك المجتمع العراقي لمآسي الطائفية، التي رأوا نتائجها السلبية في الواقع والعمليات الانتخابية السابقة، وبعد ظهور تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في العراق واحتلاله لبعض المحافظات، وأسباب أخرى كثيرة.
لكن هناك رواسب لا بدّ أن تتمظهر بين الحين والآخر على ألسنتهم وخطاباتهم أثناء الدعاية الانتخابية، وفي اللقاءات مع الناس في المناطق الفقيرة والنائية. فلا يوجد ما يعزفون عليه سوى خطاب المظلومية والتهميش والإقصاء.
احتكار الوطنية
في كلمة ألقاها قبل أيام أمين عام حزب الحل، والنائب في البرلمان العراقي، محمد الكربولي، في تجمع بمنطقة أغلب سكانها من السنة العراقيين.. قال فيها بصوت متأثر: "استهداف السنة لن يتوقف أبدًا، لأن الشعور الوطني بالسنة غير موجود في أي مُكوّن آخر"، مضيفًا: "لقد عانى السنة من الاعتقالات والتهميش".
كلمة محمد الكربولي أعلاه، كانت محط سخرية وغضب بالنسبة للعراقيين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بسبب اعتقادهم بأن هذا الخطاب يجب أن ينتهي بعدما رأوا ويلات داعش، وخراب مدنهم، وعدم الاستقرار المستمر في الواقعين السياسي والاجتماعي.
يقول محمد الهيتي، وهو مدون من الأنبار، أي نفس المنطقة التي يرجع إليها الكربولي، إن الكربولي ومعه بعض القيادات يتقنون اللعب على الوتر الحسّاس، مثل المذهب والتهميش، مشيرًا إلى أن التطّلع إلى بناء دولة المؤسسات لا يقوم على هذه اللغة "المُرجفة".
وأضاف الهيتي أن "الجمهور السُني مهمش حاله حال الجمهور الشيعي والمسيحي والأيزيدي والمندائي وبقية الأديان والمذاهب والملل. نحن -أقصد العراقيين- مهمشون فعلاً لأنكم من تريدون ذلك التهميش يا سيادة النائب".
الخدمات على وزن الطائفة
في المقابل، كان الناطق باسم حركة إرادة، والمرشح عنها، أبو فراس الحمداني، يجلس مع تجمع في منطقة شيعية، قائلًا لهم بملامح حزينة، إن "المناطق السنية في بغداد، تتمتّع بخدمات، بينما لا يوجد في المناطق الشيعية هذا الأمر". في إشارة إلى أن الخدمات في الكهرباء والماء والبناء في المناطق السنية أفضل مما هو موجود من المناطق الشيعية!
وهذا الخطاب أيضًا أثار حفيظة العراقيين، واستفز ذاكرتهم، ليُرجعها إلى الخطابات الطائفية القديمة التي كانت كلما كثرت، ارتفعت إحصائيات القتلى والمفخخات.
الهدف الأول والأخير في استدعاء الخطاب الطائفي في الانتخابات، هو السيطرة على المناصب الكبرى في البلاد دون مؤهلات سياسية
وعلى خطاب الحمداني أعلاه، علّق الكاتب العراقي علي حسين، قائلًا، إن "الناطق باسم حركة إرادة أبو فراس الحمداني شرح لنا -مشكورًا- ظاهرة الفساد الطائفي، وقال وعيناه تدمعان: المناطق السنية في بغداد، تتمتع بخدمات أفضل من المناطق الشيعية. والرجل لم يكذب فهو يريد أن يطبّق نظرية زعيمته حنان الفتلاوي في التوازن".
اقرأ/ي أيضًا: الحكم للمسؤولين وأقاربهم في العراق
و"نظرية التوازن" المذكورة، لحنان الفتلاوي زعيمة حركة إرادة، ذائعة الصيت في الإعلام والواقع السياسي العراقي، وتتمثل في تصريح تلفزيوني لفتلاوي، قالت فيه: "أريد عندما يقتل 7 من الشيعة، يقتل قبالتهم 7 من السنة". يُسميها البعض أيضًا نظرية "7 في 7"!
ويضيف الكاتب علي حسين في تدوينة مطولة على فيسبوك، أنه "يعرف أبو فراس الحمداني -الناطق باسم حركة إرادة وليس الشاعر العربي- أنّ العراق بحسب منظمة الشفافية العالمية، يقع في المراكز الأولى في مؤشر الفساد المالي والإداري. ومثل هذا الفساد معروف من يقف وراءه، ولا يحتاج إلى عبارات مطاطية مثل تقسيم بغداد إلى سنة وشيعة".
الذين "دافعوا" عن التركمان!
جاسم محمد جعفر، النائب عن محافظة كركوك، والذي يمثّل المكوّن التركماني بحسب الخارطة المحاصصاتية، كتب في ملصق دعائي له: "انتخبوا التركماني الذي أثبت قدرته للدفاع عن حق التركمان في كركوك"، مع صورة في اليمين لحيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي، وفي اليسار لنوري المالكي، رئيس الوزاء السابق، وملابس بغدادية، ورقم القائمة والتسلسل الذي يعود إلى ائتلاف الفتح، الجناح السياسي لفصائل الحشد الشعبي.
وتُعد هذه خلطة غريبة، جمعها المرشح عن ائتلاف الفتح في ملصق واحد، بضم أسماء ودلالات متنافسة فيما بينها في الانتخابات وسياسيًا عمومًا.
"انتخبوا التركماني"، تعبير يعطي تصورًا واضحًا عن شكل الدعاية الانتخابية التي يتحرك فيها عدد من المرشحين بالانتخابات العراقية، فهي تأتي إما في سياق مذهبي أو عشائري، أو في سياق مناطقي أو قومي. وهذه هي نتائج حتمية وطبيعية عن حالة التنافس التي يفرضها نظام المحاصصة، ليس في العراق وحسب، إنما في معظم الدول التي تهيمن الديمقراطية التوافقية على شكل الدولة فيها، خاصة في المجتمعات التي تشهد تنوعًا دينيًا وطائفيًا.
شُح البرامج والإنجازات
يرى مراقبون، أن ظهور هذه التصريحات مع الدعايات الطائفية، يأتي على الأرجح بسبب شح البرامج لدى القوائم الانتخابية، أو عدم القدرة على تطبيق الوعود التي تطلقها في السنوات التي تكون القائمة فيها فاعلة في البرلمان، ولديها مناصب تشريعية وتنفيذية، لكنها لا تقدم شيئًا سوى إطلاق التصريحات وإدامة الصراخ في البرلمان.
التصريحات والدعايات الطائفية، هي عصا خالية الوفاض من البرامج الانتخابية الذي يلجأ لحصن الطائفة والمشاعر لاستقطاب الناخب
ثم بعد أن تعمل على إعادة إنتاج نفسها في السباق الانتخابي الحاصل، ليس لها خيار إلا أن تتجه نحو حصن الطائفة الآمن لاستقطاب الناخب وكسب ثقته، ومداعبة مشاعره بطرق متعدّدة وغير خاضعة لمعايير المنافسة السياسية الطبيعية، فكل دورة برلمانية تفرض حالة التحشيد الانتخابي في واقعها الحاضر أدوات جديدة، لكنهم يدخلون إليها مع الاحتفاظ بالأنماط الطائفية والمناطقية، الهدف الأول والأخير من ورائها: السيطرة على المناصب الكبيرة في الدولة، دون مؤهلات سياسية تُطرح عبر برامج أو انجازات يكونون في حالة امتلاكها، ليسوا بحاجة إلى الركض نحو رمي الكرة المذهبية في أصابع الذين يصوّتون على هذه القائمة أو تلك.
اقرأ/ي أيضًا: