"ينبغي علينا أن نعتبر أي محاولة لتوسيع سيطرتها ـ أوروبا ـ على أي جزء من هذا النصف من الكرة الأرضية بمثابة خطر على سلامنا وسلامتنا. أما فيما يتعلق بالمستعمرات أو التبعيات الأوروبية الموجودة حاليًا، فإننا لم ولن نتدخل بشؤونها أبدًا". بيان الرئيس جيمس مونرو للكونغرس 1823.
"في أسرع تحقيق لمحكمة الجنايات الدولية وفي الأسبوع الأول من الحرب الروسية الأوكرانية، أعلنت جمعها معلومات حول انتهاكات حقوق الإنسان، كما لو أن ملايين العراقيين والسوريين واليمنيين والليبيين والفلسطينيين، ذهبوا في رحلة سياحية وطمرتهم عاصفة صحراوية كجيش قمبيز الذي اختفى في صحراء سيناء حتى اليوم أو صعقتهم الكهرباء" الروائي العراقي حمزة الحسن.
من حيث المبدأ، وانطلاقًا من الأعراف الدولية، لا يحق لأي بلد احتلال بلد آخر يتمتع بالسيادة الكاملة على أراضيه. ضمن هذا المبدأ، ما عليك سوى كبس الزر حين يتم احتلال بلدك، فستجد المجتمع الدولي مهرولًا إليك. غير أن هذا المبدأ الرشيق والساحر لا ينطبق على الجميع؛ فالدول العظمى تحدد مناطق نفوذها، ومجالها الحيوي، وأمنها القومي العابر للحدود. يمكن لإسرائيل أن تشن حربًا على العراق، مثلاً، بدواعي الأمن القومي، ويمكن للولايات المتحدة أن تقطع آلاف الأميال لاحتلال العراق لتخليصه من أسلحة الدمار الشامل، وبعد انكشاف المسرحية، بخصوص تدمير العراق، تذكّر الأمريكان أنهم جاءوا لبناء الديمقراطية.
كل العالم اتفق على إدانة صدام حسين حول غزوه للكويت لكن حين تعلّق الأمر بغزو العراق تحوّل مجلس الأمن إلى أسير بيد الولايات المتحدة
ليس هذا فحسب؛ لا يجوز نشر صواريخ روسية في كوبا، لا يجوز نشر صواريخ في المكسيك، لا يجوز نشر صواريخ في فنزويلا. باختصار: لا يحق لأحد أن يعقد حلفًا عسكريًا مع الدول الواقعة في نصف الكرة الغربي (دول أمريكا الجنوبية)، لأنها ببساطة واقعة ضمن المجال الحيوي للولايات المتحدة. لقد دخل العالم في نزاع شديد التعقيد، وكان على وشك التورط بحرب نووية بسبب جرأة الاتحاد السوفيتي حينذاك بنشر صواريخ في كوبا، ما أغضب الولايات المتحدة لأنها تعتبر كوبا ضمن مجالها الحيوي. هذه النزاعات لا تحسمها الدول الواقعة ضمن المجال الحيوي للقوى العظمى، بمعنى لا يحق لا لكوبا ولا المكسيك ولا غيرها اختيار الحلفاء ونصب صواريخهم في أراضيها، فهذا الأمر بمنزلة إعلان حرب على أمريكا. ولا حتى القانون الدولي يمكنه أن يفعل شيئًا إزاء هذه النزاعات المعقدة؛ فالقانون الدولي شيء والأمن القومي شيء آخر للدول العظمى! بصرف النظر عن كل التفاصيل التي وضّحناها سابقًا حول مبررات روسيا في غزو أوكرانيا، هل فهمنا الآن لماذا غزت روسيا أوكرانيا؟ إنه منطق المجال الحيوي، والتهديد السافر لأمنها القومي، والذي أثير على خلفية مماطلة دول حلف الناتو، ومخاوف روسيا حول انضمام أوكرانيا لهذا الحلف، وعدم تسلّمهم رسائل مطمئنة من قبل الغرب حول عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو. فجاء التسويغ والمبررات على طبق من ذهب للرئيس الروسي.
اقرأ/ي أيضًا: مستذكرين عواقب الحروب والاستبداد: تفاعل عراقي مع الحرب الروسية - الأوكرانية
هل هذا مقبول دوليًا؟ كلا! لماذا إذن قامت روسيا بغزو أوكرانيا؟ ما يصح لأمريكا كدولة عظمى، يصح كذلك لروسيا كدولة عظمى، وسيصح أيضًا للصين في المستقبل إن أرادت ذلك. إذًا على من يُطبَّق القانون الدولي في مثل هذه الأحداث بالذات؟ إنه يُطَبَّق على البلدان الطرفية التي تدخل ضمن نفوذ الأطلسيين، ولا بأس أن يكون تحت تأثير اللوبي الصهيوني لو تعلّق الأمر باحتلال العراق؛ فقد تضافر كل العالم على إدانة صدام حسين حول غزوه للكويت، لكن حين تعلّق الأمر بغزو العراق تحوّل مجلس الأمن إلى أسير بيد الولايات المتحدة، وتوجهت هذه الأخيرة بكل صلف لضرب العراق، ولم تُقِم وزنًا لمجلس الأمن (كلكم تتذكرون مسرحيات كولن باول في مجلس الأمن)، فأحالت العراق إلى ما قبل القرون الوسطى، عبر تدمير بناه التحتية ومحاصرته اقتصاديًا. لكن لماذا فعلت الولايات المتحدة كل ذلك في العراق؟ أنتم تعرفون الجواب: كان من أجل إزالة أسلحة الدمار الشامل ونشر الديمقراطية. لذلك، وأنا أتذكر تلك السنوات العجاف التي مر بها العراقيون وكيف استطاعت دولة عظمى مثل الولايات المتحدة أن تسهم في تدميره، أتذكر أوكرانيا الآن وشعبها المشرد في العراء، ورئيسها الكوميدي الذي حاول جاهدًا إثارة إعجاب الغرب ظنًا منه أنه سيحميه القانون الدولي.
لم يستطع الغرب السياسي، بكل ما يتبجح به، أن يتحرر من غطرسته وفوقيته التي تظهر عادة في الأزمات الدولية. ومهما حاولنا الترقيع، نحن المحرومين من النموذج، والتبرير، والاعتذار والتأويل لسياسات الغرب، يأتينا الرد حاسمًا وبليغًا من الغرب نفسه: أنتم لا تنتمون إلى عالمنا، وكل ما حصل في العراق، وسوريا، واليمن، وغيرها، يبقى مختلفًا عمّا حصل في أوكرانيا "المتحضرة". مع الفارق الكبير بين ما يحصل الآن في أوكرانيا وبين ما حصل لنا من دمار شامل. تبرير السياسات الغربية لما يحصل عندنا جاهز ومسلفن: إننا شعوب ودول فاشلة وغير متحضّرة، بينما لو يحصل هذا في دولة مثل أوكرانيا فسيهتز العالم ويتباكى عليها الإنسانيون. هذا العالم لا يحترم سوى منطق القوة، عالم لا مجال فيه للضعيف والخائف، عالم قائم على النفاق والانتهازية السياسية.
أين كان المجتمع الدولي هذا حين أكل العراقيون التمر الزهدي، ومات المئات من الأطفال، وكنّا نحلم بوجبة طعام كاملة لعوائلنا؟ الجواب جاهز: نحن حاصرنا النظام ولم نحاصر الشعب. أين أنتم الآن من مصيبة الشعب اليمني؟ الجواب جاهز: نحن قلقون جدًا جراء ما يحصل في اليمن، ونتابع عن كثب ما يجري هناك. فلنسأل الأطلسيين مرة أخرى: ألم تقوموا بغزو بلدان آمنة ودمرتم كل بناها التحتية، وأرجعتموها إلى عصر ما قبل الصناعة؟ الجواب جاهز: نحن جئنا لنشر الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
كان جواب وزيرة الخارجية في وقتها مادلين أولبرايت، عن آلاف الأطفال العراقيين الذي يموتون يوميًا تحت وطأة الحصار الاقتصادي، مُتَوقعًا وهو كالتالي: إن الثمن يستحق ذلك!
اقرأ/ي أيضًا: