لا تطل علينا العقود الستة المنصرمة في ذاكرتنا إلا بمزيد من الدم والدموع، والمزيد من تصفية الحسابات، كما لو أن روح تقمصّت هؤلاء اسمها روح الانقلاب. وتبقى الإشكالية الأبرز: اللاحق لا يأخذ العبرة من السابق وهكذا دواليك، بل يتعلّم من فنون الآخرين والزيادة عليها! فحينما يحل نظام سياسي جديد على أنقاض النظام السابق، ولكي يمسك النظام الجديد زمام الأمور، يستخدم أسرع الطرق للهيمنة، وهي تصفية كل من يندرج في خانة "الأعداء" و "العملاء" لتتم تصفيته بطريقة "شرعية" تباركها السلطة السياسية والاجتماعية. ولا يهم هوية هذا "العدو"؛ فسواء كان قوميًا، أو يساريًا، أو إسلاميًا، أو "جوكريًا"! يكفي أنه يغذي فينا روح الانقلاب وشرعنة القتل وإزاحة المختلف. وبهذه الطريقة المرعبة تتوالى الأنظمة السياسية في العراق دون أن تأخذ العبرة من السالفين. وإذا أردنا أن نكثف تاريخنا السياسي بعبارة موجزة: فهو تاريخ تضخيم السلطة على حساب الدولة، يتشابه فيها اليساري، والقومي، والإسلامي، على حد سواء. فثقافتنا، من هذه الناحية، هي ثقافة "الجثث المعلقة" بامتياز حسب توصيف هادي العلوي.
في بلد طرفي مثل العراق، وبسبب الإرث الاستبدادي الثقيل، وبسب غياب روح التغيير الحقيقية، يصعب علينا التفريق بين الحوار العقلاني وبين تصفية الحسابات
والسلوك السياسي هو ثقافة على أي حال، أعني أنه لم يسقط علينا من السماء؛ فصدام نتاج لبيئة قبلية عنيفة تغذي على الدوام روح الانقلاب والتمرد في نفوسنا. إذ لو كان العنف يرتبط بشخص بعينه، لانتهى العنف في العراق، غير أننا نرى العكس تمامًا. ولو كان الأمر بهذه البساطة، أعني أن الأمر يتوقف على شخص بعينه، لرأينا عدالة انتقالية وتحول ديمقراطي حقيقي، إذ يكفي أننا تخلّصنا من الدكتاتور، فستنزل علينا السماء ديمقراطية وحرية وحقوق إنسان!
اقرأ/ي أيضًا: أمنيات حاضرة وشروط غائبة
لقد أفرزت الأفكار العنصرية في أوروبا، مثًلًا، زعيمًا مجنونًا مثل أدولف هتلر، غير أن الألمان خبروا الدرس جيدًا بعد حرب طاحنة ومريرة، فسارعوا إلى بناء ألمانيا جديدة قائمة على الحرية والاختلاف، وخلق فضاء اجتماعي وسياسي قائم على الحوار الديمقراطي، ويرتكز على مؤسسات عصرية فاعلة. بمعنى أنهم أخذوا العبرة بطريقتها الصحيحة: إن مزيد من القتل والإقصاء والتحارب فيما بيننا سيجعل منّا أمة منقرضة ونسقط في دوامة التراجع الحضاري، وسنغذّي فينا روح القابلية على الاستعمار، وسيحكمنا منهم أكثر دهاء منّا، أو بتعبير أدق، سيحكمنا من استفاد من عبر التاريخ، وأضحى القوة المهيمنة سياسيًا، واقتصاديًا، وثقافيًا، وفي النتيجة لا تنفع معه أي مقاومة مهما كانت قوتها.
في بلد طرفي مثل العراق، وبسبب الإرث الاستبدادي الثقيل، وبسب غياب روح التغيير الحقيقية، يصعب علينا التفريق بين الحوار العقلاني وبين تصفية الحسابات! فالسياق الاجتماعي العراقي لا زال عصيًّا على هذه الأفكار الرائدة، وهو بهذا يشكّل بنية تحتية صلبة لكل نظام سياسي لاحق لشرعنة روح الاستبداد بين مختلف فئات المجتمع العراقي. فقبل الغرق في مقولات نظرية لا نجد لها مصداقًا في الخارج، خصوصًا ونحن لم نذق طعم السلطة بعد، نحتاج إلى ترويض مستمر للقدرة على الفصل بين مواقفنا النفسية والمعرفية. المواقف النفسية تصدر من الرغبة المتزايدة بالمعاناة! وربما هي سادية غير معترف بها، وإلا ماذا يعني الإصرار على التسقيط والتخوين وعدم الثقة ونحن نعلم أنه يضاعف من معاناتنا النفسية؟ ربما تمارس العادة "جبريتها" إذ يصعب علينا الفكاك منها إلا بالممارسات المستمرة، في بلد لم يتعافَ من ثقافة الاستبداد وقمع المخالفين.
المواقف النفسية لا تسهم في تحريك عجلة التغيير بقدر ما تسهم في رفد السلطة الاستبدادية سواء كنّا نشعر بذلك أم لا، ولا تجعل منّا ديمقراطيين حتى لو تغنينا بالديمقراطية، ما لم نعمل على الفصل الحقيقي بين مواقفنا النفسية والمعرفية. المواقف المعرفية فهي تصدر من رغبتنا بالاكتشاف، اكتشاف حقيقة جهلنا ومحاولة تقليصها قدر الإمكان، ذلك أن الرغبة بالمعرفة تعني شكلًا من أشكال الحرية. لا يمكن طلب التحرّر ومعرفة حقيقة جهلنا بالاستعانة بالمواقف النفسية على الإطلاق. لكل منا شاهد داخلي يفهم دوافعه جيدًا ويستطيع تمييزها، ومواقع التواصل الاجتماعي، من هذه الجهة، مختبر خارجي مهم للتميز بين هذه المواقف والتعلم منها. لأننا شاهدنا، ومنذ سنين، كيف وصل التنمّر، والاستبداد، والتخوين، والاتهامات المتبادلة بين فئات اجتماعية صنعتها الميديا، وأظهرت لنا صعوبة التغيير في بلد لم يحسم حتى الآن حقيقة التحول الديمقراطي.
على أي حال، علينا أن لا نتنكّر لهذه الحقيقة: إن المجتمع العراقي تربى على الاستبداد، وعلينا أن لا ننسى أن الذاكرة العراقية مليئة بالدم والدموع، فالانتباه واجب على كل من يسعى لممارسة العمل السياسي أن ينظف نفسه من هذا المرض العضال. فالكثير منّا يأخذه الحنين إلى ثقافة السحل. وليس بالضرورة أن يكون السحل على طريقة الأنظمة السابقة؛ فيكفي التسقيط والتخوين المتبادل كفعل رمزي يترجم لنا ويعكس ثقافة الجثث المعلقة. وعلينا أن لا نبالغ في تقدير الذات بحجة أننا لم نتلوّث بدنس السلطة؛ فالممارسة السياسية وحدها من تفضح ما في الأعماق وتترجم دوافعنا بأمانة. قبل أن نتقمّص دور المعارض ربما من الأجدى أن نمارس الحوار الديمقراطي بيننا (كمعارضين للسلطة) فهو أكبر تحدٍ لكل من يسعى لحياة حرة كريمة، وبخلافه فنحن في أحسن الأحوال ورثة أمناء لأجيال الاستبداد السابقة.
اقرأ/ي أيضًا: