اعتلى نبوخذ نصر عرش بابل في 23 أيلول/سبتمبر عام 604 ق.م و بعد مرور عام حدث أن نكث ملك مملكة يهوذا (يهوياكيم) العهد مع نبوخذ نصر، ففرضت جيوش بابل حصارًا على أورشليم العاصمة، حتى استسلمت في عام 597 ق.م، وتم أسر 3000 يهودي، وكان من بينهم (ياهوكين) ابن يهوياكيم الملك الذي مات خلال الحصار، وجيء بهم إلى بابل.
كان اليهود يعيشون حياة كريمة في بابل على عكس ما نقل في الأسفار القديمة
نبوخذ نصر، عيّن على يهوذا حاكمًا مواليًا له اسمه (صدقيا) الذي نكث العهد أيضًا، وعاد البابليون إلى حصار أورشليم لمدة 18 شهرًا، فاستسلمت عام 586 ق.م، فدمرت ودمر معها الهيكل وسيق ملكها (صدقيا) أسيرًا مع 40 ألف من اليهود إلى بابل.
لم تسلّط التوراة الضوء على حياة اليهود في بابل في كلا الأسرين، رغم أنّ السبي البابلي كان عاملًا مهمًا في تطور وصياغة اليهودية كديانة، كما انعكس ذلك بصورة واضحة على الأدبيات المؤسسة لها، أما المصادر البابلية فيرد أول ذكر لليهود فيها بعد ست سنوات من السبي الأول، وكان بشكل قوائم من الحصص خصصها قصر الملك البابلي، وتضم أسماء أمراء يهود واسم يهوياكين.
وعلى الرغم من أن استخدام الأسرى كقوى عاملة في مشاريع البناء العامة أو التبرع بهم كخدم للمعابد كان شائعًا، إلا أن هذا الأمر لم تذكره سجلات المعابد البابلية الكبرى، وظل الغموض يكتنف حياة اليهود في بابل حتى تسعينيات القرن الماضي حين وجدت بعض الرقم الطينية المستخرجة بشكل عشوائي وغير قانوني طريقها إلى خارج العراق عبر التجارة غير المشروعة لتسلط الضوء على حياة يهود السبي.
وفي دراسة ظهرت مؤخرًا وترجمها "ألترا عراق"، يقول عالم التاريخ تيرو الستولا من جامعة هلسنكي الفنلندية، إنّ "الأسرى اليهود أعيد توطينهم في قرى عديدة تقع في مدينة نيبور (تقع آثارها في قضاء عفك – محافظة القادسية/ أو الديوانية) وتم دمجهم في المجتمع وفقًا لنظام الإدارة البابلي (الأرض مقابل الخدمة) إذ حصلوا على الأراضي الزراعية لزراعتها مقابل الخدمات التي يقدمونها كدفع الضرائب والخدمة العسكرية ".
وأضاف الستولا أنّ "القرى التي استوطنها يهود السبي كانت قد سميت بأسماء من التراث العبري مثل قرية أشكلون (عسقلان) و حماة ويهودو ويهوذا".
يبلغ عدد الرقم الطينية المهربة 250 رقيم، وهي مجموعة من المستندات القانونية كإذونات وعقود إيجار ووصولات استلام متعلّقة بالمعاملات اليومية في قطاع (الأرض مقابل الخدمة) إذ تظهر أن اليهود استقروا في قرية يهودو بعد فترة وجيزة بعد السبي، ويرجع تاريخ أول وثيقة محفوظة من القرية إلى عام 572 قبل الميلاد تعود إلى مزارع يهودي حصل على قطعة أرض صغيرة، وزرع فيها الشعير والتمر وبعض الخضروات للاستهلاك الشخصي ودفع الضرائب السنوية.
أما تاريخ آخر نص كتب في قرية يهودو، فيعود إلى العام 477 ق.م. لكن من جانب آخر، فإنّ أرشيف كامل لعائلة يهودية من رجال الأعمال البابليين تدعى "موراشوس" تعمل في قطاع (الأرض مقابل الخدمة) يذكر أسماء 60 يهوديًا آخر لا تختلف أوضاعهم عن أوضاع اليهود في قرية (يهودو) وهم أيضًا زرعوا الأراضي، وقدموا الخدمات ودفعوا الضرائب، ويشير الأرشيف إلى الاختلافات الاجتماعية والاقتصادية بين اليهود أنفسهم، فقد بدأت تظهر مع مرور الوقت.
أما سجل العائلة اليهودية المترفة المعروفة باسم (آريا) فهو يسلط الضوء على اندماج اليهود في بابل. إنّ هذه العائلة مارست تجارة الذهب والتعامل مع معبد بابارا (معبد إله الشمس) في مدينة سيبار (تقع آثارها الآن قرب اليوسفية/بغداد) ويبدو أنهم مارسوا تجارة الذهب بأنفسهم، الأمر الذي يسمح لهم بالسفر بعيدًا عن بابل. إن نسل عائلة آريا كان جزءًا من مجتمع تجاري متعدد الثقافات في سيبار، لكنهم اندمجوا في المجتمع البابلي، وينعكس هذا في زواج ابنتهما كاشايا من عائلة بابلية ذات مكانة اجتماعية عالية، وكذلك في الأسماء البابلية التي أطلقوها على كاشايا وإخوتها مثل "بل –ايدين" و"بل أوبليت" و"نابو إتانو" و"شمش ايدين" وهي أسماء بابلية.
ويقول العالم الهولندي الستولا ، إنه "تمت كتابة آخر لوح مسماري يشير إلى قرية يهوذا في بابل في القرن الرابع قبل الميلاد، مما يعكس الانخفاض العام في استخدام الكتابة المسمارية، ومن هنا يمكن ملاحظة سكن اليهود المستمر والمستقر في بابل طوال الفترة التي تغطيها مصادرنا". أي أنّ سيناريو العودة إلى يهوذا كما تصورها أسفار العهد القديم يعد مبالغًا فيه، وتنقضه الأدلة الأثرية، وأن الحياة الكريمة في بابل كانت السبب وراء عدم عودتهم.